﴿وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ فَلا تَبْتَـاِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ : قرأ الجمهور وأوحي مبنياً للمفعول، أنه بفتح الهمزة. وقرأ أبو البر هشيم : وأوحي مبنياً للفاعل، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء أوحى مجرى قال : على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى عنهم. ومعنى إلا من قد آمن أي : من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون، وهو حزنه عليهم في استكانة. وابتأس افتعل من البؤس، ويقال : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وقال الشاعر :
وكم من خليل أو حميم رزئتهفلم نبتئس والرزء فيه جليل
وقال آخر :
ما يقسم الله أقبل غير مبتئسمنه واقعد كريماً ناعم البال
وقال آخر :
فارس الخيل إذا ما ولولتربة الخدر بصوت مبتئس
وقال آخر :
في مأتم كنعاج صارة يبتئسن بما لقينا
صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام منهم. واصنع عطف على فلا تبتئس، بأعيننا بمرأى منا، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها، ولا يحول بين العمل وبينه أحد. والجمع هنا كالمفرد في قوله : ولتصنع على عيني، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها. وقرأ طلحة بن مصرف : باعينا مدغمة. ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. قيل : ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذي نجعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة. وقول من قال : معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف، لأن قوله : واصنع الفلك، مغن عن ذلك. وفي الحديث :"كان زان سفينة نوح جبريل" والزان القيم بعمل السفينة. والذين ظلموا قوم نوح، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله :
٢٢٠
﴿يَـا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآا إِنَّه قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَا وَإِنَّهُمْ ءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
ف ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلا مِّن قَوْمِهِا سَخِرُوا مِنْه قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ ويصنع الفلك حكاية حال ماضية، والفلك السفينة. ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال : يا رب ما أنا بنجار، قال : بلى، ذلك بعيني. فأخذ القدوم، وجعلت يده لا تخطىء، فكانوا يمرون به ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً ؟ وقيل : كانت الملائكة تعلمه، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه، والخشب من الساج قاله : قتادة، وعكرمة، والكلبي. قيل : وغرسه عشرين سنة. وقيل : ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس. وقال عمرو بن الحرث : لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان. وقال ابن عباس : من خشب الشمشار، وهو البقص قطعة من جبل لبنان. واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول، وفي مقدار مدة عملها، وفي المكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت، قالوا : يا نوح ما تصنع ؟ قال : ابني بيتاً يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله : مقاتل. وقيل : لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر، فكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً. وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال : مستأنف على تقدير سؤال سائل. وجوزوا أن يكون العامل قال : وسخروا صفة لملا، أو بدل من مرّ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه. قال ابن عطية : وسخروا منه استجهلوه، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط، ولا كانت، فوجه الاستجهال واضح، وبذلك تظاهرت التفاسير، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى، فأنا نسخر منكم في المتقبل كما تسخرون منا الآن أي : مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا، وأحرقتم في الآخرة، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال : قريباً من معناه الزجاج. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن
٢٢١


الصفحة التالية
Icon