ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر. واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحدة. وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلاً في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية. وقيل : سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل، وقيل : قبل أن عرف هلاكه، وقيل : بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة أنْ أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً بأدبك، واتعاظاً بموعظتك، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله. قال ابن عطية : والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه. وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا، وظاهر قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم، يعم النحوين من السؤال، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدباً مع ربه فقال : وألا تغفر لي، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام.
﴿قِيلَ يَـانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا وَبَرَكَـاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَا وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَا مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فَاصْبِرْا إِنَّ الْعَـاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ : بني الفعل للمفعول، فقيل : القائل هو الله تعالى، وقيل : الملائكة
٢٣٠
تبليغاً عن الله تعالى. والظاهر الأول لقوله : منا. وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض، والباء للحال أي : مصحوباً بسلامة وأمن وبركات، وهي الخيرات النامية في كل الجهات. ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي : اهبط مسلماً عليك مكرماً. وقرىء اهبط بضم الباء، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذاناً له بمغفرة ربه له ورحمته إياه، وبإقامته في الأرض آمناً من الآفات الدنيوية، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان ذلك تبشيراً له بعود الأرض إلى أحسن حالها، ولذلك قال : وبركات عليك أي دائمة باقية عليك. والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي : ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات. وقيل لهم : أمم، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى. وهذا فيه بعد تكلف، إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه، وعلى أمم معك أو على من معك، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم، وأبعد عن اللبس. وارتفع أمم على الابتداء. قال الزمخشري : وسنمتعهم صفة، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله : ممن معك، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى. ويجوز أن يكون أمم مبتدأ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، والتقدير : وأمم منهم أي ممن معك، أي ناشئة ممن معك، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم، أي منوان منه، فحذف منه وهو صفة لمنوان، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة. ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، فكان مثل قول الشاعر :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٢٣
إذا ما بكى من خلفها انحرفت لهبشق وشق عندنا لم يحول


الصفحة التالية
Icon