قال الزمخشري :(فإن قلت) : لم أخر الشمس والقمر ؟ (قلت) : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتاً لفضلهما، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما. لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى. والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه. قال تعالى :﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ وقال : وجمع الشمس والقمر ﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها، واستمداده منها، وعلو مكانها. والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل، كما كرر إنكم في قوله ﴿أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ﴾ لطول الفصل بالظرف وما تعلق به.
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : ما معنى تكرار رأيتهم ؟ (قلت) : ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها ؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين انتهى. وجمعهم جمع من يعقل، لصدور السجود له، وهو صفة من يعقل، وهذا سائغ في كلام العرب، وهو أنْ يعطي الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما. والسجود : سجود كرامة، كما سجدت الملائكة لآدم. وقيل : كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض. ولما خاطب يوسف أباه بقوله : يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله : يا بني، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة. وقرأ حفص هنا وفي لقمان، والصافات : يا بني بفتح الياء. وابن كثير في لقمان ﴿يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ﴾ وقنبل يا بنيْ أقمْ بإسكانها، وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي : لا تقص مدغماً، وهي لغة تميم، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز. والرؤيا مصدر كالبقيا. وقال الزمخشري : الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل : القربة والقربى انتهى. وقرأ الجمهور : رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي : بالإمالة وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٥
وإخوة يوسف : هم كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويقال باللام كجبريل، وجبرين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشير، فيكيدوا لك : منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي، وعدي فيكيدوا باللام، وفي "فكيدون" بنفسه، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد، واحتمل أن يكون من باب التضمين، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال : فيحتالوا لك بالكيد، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين، وللمبالغة أكد بالمصدر. ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو : ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما، فهو يجتهد دائماً أنْ يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أنّ الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه، فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن
٢٨٠
يقص على إخوته مخافة كيدهم، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق، ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة. وكذلك يجتبيك ربك أي : مثل ذلك الاجتباء، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره، وشريف منصبه، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك. ويجتبيك : يختارك ربك للنبوة والملك. قال الحسن : للنبوة، وقال مقاتل : للسجود لك، وقال الزمخشري : لأمور عظام. ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه، كأنه قال : وهو يعلمك. قال مجاهد والسدي : تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا. وقال الحسن : عواقب الأمور، وقيل : عامة لذلك ولغيره من المغيبات، وقال مقاتل : غرائب الرؤيا، وقال ابن زيد : العلم والحكمة.


الصفحة التالية
Icon