روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه، ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا : ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه، ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات، كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب، وألقاه عل وجهه فارتد بصيراً، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر. قال الزمخشري :(فإن قلت) : على قميصه ما محله ؟ (قلت) : محله النصب على الظرف، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال. (فإن قلت) : هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة ؟ (قلت) : لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى. ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا، وليس الفوق ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم. وقال الحوفي : على متعلق بجاؤوا، ولا يصح أيضاً. وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل، ويكون بأحمال في موضع الحال أي : مصحوباً بأحمال. وقال أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم، لأن التقدير : جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى. وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء.
وقرأ الجمهور : كذب وصف لدم على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف أي : ذي كذب، لما كان دالاً على الكذب وصف به، وإن كان الكذب صادراً من غيره. وقرأ زيد بن علي : كذباً بالنصب، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال، وأن يكون مفعولاً من أجله. وقرأت عائشة، والحسن : كدب بالدال غير معجمة، وفسر بالكدر، وقيل : الطري، وقيل : اليابس، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب أي : أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها، كالنقش، ويسمى ذلك البياض الفوف، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص، كتأثير ذلك في الأظافير. قال : بل سولت هنا محذوف تقديره : لم يأكله الذئب، بل سولت. قال ابن عباس : أمرتكم أمراً، وقال قتادة : زينت، وقيل : رضيت أمراً أي : صينعاً قبيحاً. وقيل : سهلت. فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وقرأ أبي، والأشهب، وعيسى بن عمر : فصبراً جميلاً بنصبهما، وكذا هي في مصحف أبيّ، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي. ونصبه على المصدر الخبري أي : فاصبر صبراً جميلاً. قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يحسن النصب في قوله :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٥
شكا إلي جملي طول السرىصبراً جميلاً فكلانا مبتلي
ويروى صبر جميل في البيت. وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال : فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً. وفي الحديث :"أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه" أي : إلى الخلق. ألا ترى إلى قوله :﴿إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ﴾ وقيل : أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه، وعبوس الجبين، بل على ما كنت عليه معكم. وقال الثوري : من الصبر أنْ لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك. والله المستعان أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزية. وجاءت سيارة قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر، وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وكان أخوه
٢٨٩
يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته. وقيل : جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب. وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب. قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض، وقيل : سيارة في الطريق أخطئه فنزلوا قريباً من الجب، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء. والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم. ليست إضافة إلى المفعول، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم. والظاهر أن الوارد واحد. وقال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى. وحمل على معنى السيارة في قوله : فأرسلوا، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها. فأدلى دلوه أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي. في الكلام حذف تقديره : فتعلق يوسف بحبل الدلو، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي. وتلقه بالحبل يدل على صغره، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً، ولفظه غلام ترجح ذلك، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف :
غلام إذا هز القناة سقاها