مدينة الملك، وقيل : كان فيها، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال. وفي الكلام حذف التقدير : فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال : والصديق بناء مبالغة كالشريب والكبر، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وقوله : لعلي أرجع إلى الناس أي : بتفسير هذه الرؤيا. واحترز بلفظة لعلي، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم. وقوله : لعلهم يعلمون، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا. وقيل : لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك، فتكون لعل كالتعليل لقوله : أفتنا. قال : تزرعون إلى آخره، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول : أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ. والثاني : عرض رأي وأمر به، وهو قوله : فذروه في سنبله. والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة. قال ابن عطية : ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع، ومعلوم أنه الأخصب انتهى. والظاهر أن قوله : تزرعون سبع سنين دأباً خبراً، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد. وقال الزمخشري : تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله :﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِا وَتُجَـاهِدُونَ﴾ وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمن قوله : فذروه في سنبله انتهى. ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين. وأما قوله : فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه. ومعنى دأباً : ملازمة، كعادتكم في المزارعة. وقرأ حفص : دأباً بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وهما مصدران لدأب، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي : تدابون داباً، فهو منصوب على المصدر. وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون، وهي عنده مثل قعد القرفصاء. وقيل : مصدر في موضع الحال أي : دائبين، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون. وما في قوله : فما حصدتم شرطية أو موصولة، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإذا بقيت فيها انحفظت، والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر. وقرأ السلمي : مما يأكلون بالياء على الغيبة أي : يأكل الناس، وحذف المميز في قوله : سبع شداد أي : سبع سنين شداد، لدلالة قوله : سبع سنين عليه. وأسند الأكل الذي في قوله : أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٣
﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾. ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ. وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور : يغاث من الغيث، وقيل : من الغوث، وهو الفرج. ففي الأول بني من ثلاثي، وفي الثاني من رباعي، تقول : غاثنا الله من الغيث، وأغاثنا من الغوث. وقرأ الأخوان : تعصرون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه، لأنه عصر للضروع. وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب. وقال أبو عبيدة وغيره : مأخوذ من العصرة، والعصر وهو المنجي، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه :
صادياً يستغيث غير مغاثولقد كان عصرة المنجود
٣١٥
فالمعنى : ينجون بالعصرة. وقرأ جعفر بن محمد، والأعرج، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول، وعن عيسى أيضاً : تعصرون بالتاء على الخطاب مبنياً للمفعول، ومعناه : ينجون من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله : يغاث الناس. وقال ابن المستنير : معناه يمطرون، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم، وهو للماء الذي يمطرون به. وقرى زيد ابن علي : وفيه تعصرون، بكسر التاء والعين والصاد وشدها، وأصله تعتصرون، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، واتبع حركة التاء لحركة العين. واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه. ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر :
لو بغير الماء حلقي شرقكنت كالغصان بالماء اعتصاري
أي نجاتي. تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحي. وعن قتادة : زاده الله علم سنة، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب.