فكان في حكم التابع. وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا. وكذلك أي : مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء أي : يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد، فاستولى على جميعها، ودخلت تحت سلطانه. روي أن الملك توجه بتاجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت، فجلس على السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت ؟ فوجدها عذراء، لأنّ العزيز كان لا يطأ، فولدت له ولدين : افراثيم، ومنشا. وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم، ثم استرقهم جميعاً فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا، واحتبس بنيامين. وقرأ الحسن وابن كثير : بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع : حيث نشاء بالنون، والجمهور بالياء. والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله، إذ هو نبيه ورسوله. وإما أن يكون الضمير عائداً على الله أي : حيث يشاء الله، فيكون التفاتاً. نصيب برحمتنا أي : بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما، ولا نضيع في الدنيا أجر من أسن. ثم ذكر أن أجر الآخرة خير، لأنه الدائم الذي لا يفنى. وقال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية. وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٣
﴿إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَه مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُم أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِا فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَـانِهِ اجْعَلُوا بِضَـاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ : أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام. وقيل : من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها، فتوصلوا إلى يوسف للميرة، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال، ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك، ولأنّ همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمل ويتفطن. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم، وأمر بإنزالهم. ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا له، وإنكارهم إياه كان. قال الزمخشري : لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشريّاً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم. ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف. وقيل : رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فما خطر لهم أنه هو. وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٣


الصفحة التالية
Icon