فشرع في كشف أمره إليهم. فيروي أنه حسر قناعة وقال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي : من التفريق بينهما في الصغر، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف ؟ وكانوا يذلونه ويشتمونه. قال ابن عطية : ونسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل السيآت وقلة الحنكة. وقال الزمخشري : أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً، فكلمهم مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال : هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ؟ لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، وإيثاراً لحق الله على حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها، ولله حصى عقولهم ما أرزنها وأرجحها انتهى وقيل : لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين. وفي التحرير ما لخص منه وهو أن قول الجمهور : هل علمتم استفهام معناه التقريع والتوبيخ، ومراده تعظيم الواقعة أي : ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف. كما يقال : هل تدري من عصيت ؟ وقيل : هل بمعنى قد، لأنهم كانوا عالمين، وفعلتم بيوسف إفراده من أبيهم، وقولهم : بأن الذئب أكله، وإلقاؤه في الجب وبيعه بثمن بخس إن كانوا هم الذين باعوه، وقولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، والذي فعلوا بأخيه أذاهم له وجفاؤهم له، واتهامه بسرقة الصاع، وتصريحهم بأنه سرق، ولم يذكر لهم ما إذ واجه أباهم تعظيماً لقدره وتفخيماً لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه. قال ابن عباس، والحسن : جاهلون صبيان. وقال مقاتل : مذنبون. وقيل : جاهلون بما يجب من بر الأب، وصلة الرحم، وترك الهوى. وقيل : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف. وقيل : جاهلون بالفكر في العاقبة، وعدم النظر إلى المصلحة. وقال المفسرون : وغرض يوسف توبيخ أخوته وتأنيبهم على ما فعلوا في حق أبيهم وفي حق أخويهم، قال : والصحيح أنه قال ذلك تأنيساً لقلوبهم، وبسط عذر كأنه قال : إنما أقدمكم على ذلك الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور، وكأنه لقنهم الحجة كقوله :﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ وما حكاه ابن الهيصم في قصة من أنه صلبهم، والثعلبي في حكايته أنه غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا، فرق لهم وقال : هل علمتم الآية : لا يصح البتة، وكان يوسف من أرق خلق الله وأشفقهم على الأجانب، فكيف مع إخوته ولما اعترفوا بالخطأ قال : لا تثريب عليكم الآية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٩
﴿قَالُوا أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُا قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَـاذَآ أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآا إِنَّه مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ﴾ :
٣٤١
لما خاطبهم بقوله : هل علمتم ؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم، ولا تتبع أحوالهم، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال : إنه كان يكلمهم من وراء حجاب، فرفعه ووضع التاج وتبسم، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة، فتوسموا أنه يوسف، واستفهموه استفهام استخبار. وقيل : استفهام تقرير، لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها.


الصفحة التالية
Icon