وهذه الضلالات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة، والتصرف التام في العالم العلوي والسفلي، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية، والضمير في وهم يجادلون، عائد على الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلّم، المنكرين الآيات، يجادلون في قدرة الله على البعث وإعادة الخلق بقولهم :﴿مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد. ونسبة التوالد إليه بقولهم : الملائكة بنات الله تعالى والمعنى : أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء. وقيل : وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي. وكذلك الجبار، ولا ربد. وهو شديد المحال، جملة حالية من الجلالة. وقرأ الجمهور : المحال بكسر الميم. فعن ابن عباس : المحال العداوة، وعنه الحقد. وعن عليّ : الأخذ،
٣٧٥
وعن مجاهد : القوة. وعن قطرب : الغضب. وعن الحسن : الهلاك بالمحل، وهو القحط. وقرأ الضحاك والأعرج : المحال بفتح الميم. فعن ابن عباس : الحول. وعن عبيدة : الحيلة. يقال : المحال والمحالة وهي الحيلة، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب، ويكون مثلاً في القوة والقدرة، كما جاء : فساعد الله أشد، وموساه أحدّ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر وقوامسه. والضمير في له عائد على الله تعالى، ودعوة الحق قال ابن عباس : دعوة الحق لا إله إلا الله، وما كان من الشريعة في معناها. وقال علي بن أبي طالب، دعوة الحق التوحيد. وقال الحسن : إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل : دعوة الحق دعاؤه عند الخوف، فإنه لا يدعي فيه إلا هو، كما قال :﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُا﴾ قال الماوردي : وهو أشبه بسياق الآية. وقيل : دعوة الطلب الحق أي : مرجو الإجابة، ودعاء غير الله لا يجاب، وقال الزمخشري : فيه وجهان. أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قوله :"كلمة الحق" للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل، والمعنى : أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة له، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه. والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب. وعن الحسن رحمه الله : الحق هو الله تعالى، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر، لأنّ مآله إلى تقدير : لله دعوة لله، كما تقول : لزيد دعوة زيد، وهذا التركيب لا يصح. والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله : ولدار الآخرة على أحد الوجهين، والتقدير : لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة، والمعنى : أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق. ولما ذكر تعالى جدال الكفار في الله تعالى، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي : من يدعو له فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء. فقال :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٥٦
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾. قال الزمخشري : والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه، يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه. وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم. وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى. فالضمير في يدعون عائد على الكفار، والعائد على الذين محذوف أي : يدعونهم. ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر. وقيل : الذين أي : الكفار الذين يدعون، ومفعول يدعون محذوف أي : يدعون الأصنام. والعائد على الذين الواو في يدعون، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف، وعلى القول الأول على الذين. قال ابن عباس : كالناظر إلى خياله في الماء يريد تناوله، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه. وقال الضحاك : كمن بسط يديه إلى الماء ليص إليه بلا اغتراف. وقال أبو عبيدة : أي كالقابض على الماء ليس على شيء، قال : والعرب تضرب المثل في
٣٧٦