وقرأ أبو حيوة : ليهلكن الظالمين وليسكننكم، بياء الغيبة اعتباراً بقوله : فأوحى إليهم ربهم، إذ لفظه لفظ الغائب. وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفاً لهم بالخطاب، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله : فأوحى إليهم ربهم. ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم، أقسم تعالى على إهلاكهم. وأي إخراج أعظم من الإهلاك، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل. قال ابن عطية : وخص الظالمين من الذين كفروا، إذ جائز أنْ يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم. وقال غيره : أراد بالظالمين المشركين، قال تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله تعالى :﴿وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء : مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي : قيامي عليه بالحفظ لأعماله، ومراقبتي إياه لقوله :﴿كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ﴾.
٤١١
وقال الزجاج : مكان وقوفه بين يدي للحساب، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِا جَنَّتَانِ﴾ وعلى إقحام المقام أي لمن خافني. والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء : أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله :﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة، أي : استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم. واستنصار الرسل في القرآن كثير كقول نوح :﴿فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِى﴾ وقول لوط :﴿رَبِّ نَجِّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ وقول شعيب :﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ وقول موسى :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ﴾ الآية. وقول ابن زيد : الضمير عائد على الكفار أي : واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش :﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ وقول أبي جهل : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١٠
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ وقوم شعيب :﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ وعاد :﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ وبعض قريش :﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾. وقيل : الضمير عائد على الفريقين : الأنبياء، ومكذبيهم، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل. ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن : واستفتحوا بكسر التاء، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم : ليهلكن، وقال لهم : استفتحوا أي : اطلبوا النصر وسلوه من ربكم. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيّب رجاء كل جبار عنيد، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار. واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى. وخاب معطوف على محذوف تقديره : فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل، وتقدم شرح جبار. والعنيد : المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائداً على الكفار، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا. ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي : من بعده. وقال الشاعر :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةوليس وراء الله للمرء مهرب
وقال أبو عبيدة أيضاً، وقطرب، والطبري، وجماعة : ومن ورائه أي ومن أمامه، وهو معنى قول الزمخشري : من بين يديه. وأنشد :
عسى الكرب الذي أمسيت فيهيكون وراء فرج قريب
وهذا وصف حاله في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. وقال الشاعر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتيوقوم تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر :
أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصا نحني عليها الأصابع
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١٠
ووراء من الأضداد قاله : أبو عبيدة والأزهري. وقيل : ليس من الأضداد. وقال ثعلب : اسم لما توارى عنك، سواء كان أمامك أم خلفك. وقيل : بمعنى من خلفه أي : في طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي : سوف يأتيك. ويسقى معطوف على محذوف تقديره : يلقى فيها ويسقى، أو معطوف على العامل في من ورائه، وهو واقع موقع الصفة. وارتفاع جهنم على الفاعلية، والظاهر إرادة حقيقة الماء.
٤١٢


الصفحة التالية
Icon