﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِا يَسْتَهْزِءُونَ * كَذَالِكَ نَسْلُكُه فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِا وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَآءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ : لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه السلام، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك. وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام. ومفعول أرسلنا محذوف أي : رسلاً من قبلك. وقال الفراء : في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله : حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي : في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون. وقال الزمخشري : وما يأتيهم حكاية ماضية، لأنّ ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى. وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مراداً به الحال، وتدخل عليه مراداً به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٤١
أودي بني وأودعوني حسرةعند الرقاد وعبرة ما تقلع
وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام :
له نافلات ما يغب نوالهاوليس عطاء اليوم مانعه غدا
وقال تعالى :﴿مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَه مِن تِلْقَآى ِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ﴾ إلى والضمير في نسلكه عائد على
٤٤٧
الذكر قاله الزمخشري، قال : والضمير للذكر أي : مثل ذلك السلك. ونحوه : نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام يعني : مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية. ومحل قوله : لا يؤمنون النصب على الحال أي : غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله : كذلك نسلكه انتهى. وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن : معناه نسلك الذكر إلزاماً للحجة. وقال ابن عطية : الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول : الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد. ويكون الضمير في به يعود أيضاً على ذلك نفسه، وتكون باء السبب أي : لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله : لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي : مكذباً به مردوداً مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين. ويكون الضمير في به عائداً عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى. وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب. والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله : يستهزؤون، والباء في به للسبب. والمجرمون هنا كفار قريش، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان. ولا يؤمنون إن كان إخباراً مستأنفاً فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول. وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم، واستهزؤوا بهم، وهو تهديد لمشركي قريش. والضمير في عليهم عائد على المشركين، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق. والظاهر أنّ الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله : عليهم، أي : لو فتح لهم باب من السماء، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا : هو شيء تتخيله لا حقيقة له، وقد سخرنا بذلك. وجاء لفظ فظلوا مشعراً بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا، على أنّ ظل يأتي بمعنى صار أيضاً. وعن ابن عباس أنّ الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم :﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئاِكَةِ﴾ أي : ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٤١