جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧١
﴿وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا﴾ وقال ابن عباس : الروح الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء، ونظيره :﴿يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِا عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وقال الربيع بن أنس : هو القرآن، ومنه ﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ وقال مجاهد : المراد بالروح أرواح الخلق، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وقال الحسن وقتادة : الروح الرحمة. وقال الزجاج : ما معناه الروح الهداية لأنها تحيا بها القلوب، كما تحيا الأبدان بالأرواح. وقيل : الروح جبريل، ويدل عليه :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ﴾ وتكون الباء للحال أي : ملتبسة بالروح. وقيل : بمعنى مع، وقيل : الروح حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة، كما الملائكة حفظة علينا لا تراهم. وقال مجاهد أيضاً : الروح اسم ملك، ومنه :﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَئاِكَةُ صَفًّا ﴾ وعن ابن عباس : أنّ الروح خلق من خلق الله كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وقال نحوه ابن جريج. قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف لم يأت به سند.
وقال الزمخشري : بالروح من أمره، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى. ومِنْ للتبعيض، أو لبيان الجنس. ومن يشاء : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنْ مصدرية، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم : كتبت إليه بأنْ قم، وهو بدل من الروح. أو على إسقاط الخافض : بأن أنذروا، فيجري الخلاف فيه : أهو في موضع نصب ؟ أو في موضع خفض ؟ وقال الزمخشري : وأن أنذروا بدلاً من الروح أي : ننزلهم بأن أنذروا، وتقديره : أنذروا أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أنه لا إله إلا أنا انتهى. فجعلها المخفف من الثقيلة، وأضمر اسمها وهو ضمير
٤٧٣
الشأن، وقدر إضمار القول : حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع. وجوّز ابن عطية، وأبو البقاء، وصاحب الغنيان : أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول أي : أعلموا الناس من نذرت بكذا إذا أعلمته. قال الزمخشري : والمعنى يقول لهم : أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون انتهى. لما جعل أنْ هي التي حذف منها ضمير الشأن قدر هذا التقدير وهو يقول لهم : أعلموا. وقرىء : لينذروا أنه، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بألوهيته، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان. ومعنى : فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلهاً غيري. وجاءت الحكاية على المعنى في قوله : إلا أنا، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا الله، وكلاهما سائغ. وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها. وبالحق أي : بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧١
وقرأ الأعمش : فتعالى بزيادة فاء، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه الله تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة. ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض، وهو استدلال بالخارج، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله. والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم، أو بمعنى مخاصم، كالخليط والجليس، والمبين الظاهر الخصومة أو المظهرها. والظاهر أنّ سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله : سبحانه وتعالى عما يشركون، وقوله : أن أنذروا الآية. ولتكرير تعالى عما يشركون، ولقوله في يس :﴿أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ﴾ الآية وقال :﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ وعنى به مخاصمتهم لأنبياء الله وأوليائه بالحجج الداحضة، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفاً بالذم.