والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي : ماء كائناً لكم منه شراب. ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ. لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه. والشراب هو المشروب، والتبعيض في منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال : أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر. وقال ابن الأنباري : هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي : ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي : شرب شجر كقوله ﴿وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ أي حبه. والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج. وقال : نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجراً. وقال ابن قتيبة : الشجر هنا الكلأ، وفي حديث عكرمة :"لا تأكلوا الشجر فإنه سحت" يعني الكلأ.
ويقال : أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج : من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات. وقرأ زيد بن علي : تسيمون بفتح التاء، فإن سمع متعدياً كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازماً فتأويله على حذف مضاف تسيمون أي : تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر. أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المراد من قوله : ومنه شجر العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف إخبار منافع الماء. ويقال : نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت، وهذا قياسه منبت. وقيل : يقال أنبت الشجر لازماً. وأنشد الفراء :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧١
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهمقطينا بهم حتى إذا أنبت البقل أي نبت. وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر : ننبت بنون العظمة. وقرأ الزهري : ننبت بالتشديد قيل : للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبيّ : ينبت من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه. وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع. وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأنّ ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال : ومن كل الثمرات، أتى بلفظ مِن التي للتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة. ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله : ويخلق ما لا تعلمون، كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من
٤٧٨
النبات، ثم قال : ومن كل الثمرات، تنبيهاً على أنّ تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أن تفصيل ما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر. وختم ذلك تعالى بقوله : لآية لقوم يتفكرون، لأنّ النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر. ألا ترى أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon