انتهى. وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل. وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً، ومخفوض نحو : ما مرّ إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو. ووافقه ابن الأنباري في الموفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال. فالقول الذي قاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو. وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي : رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد : إلا، فوصف رجالاً بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول : ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير. وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون. قال : على أنّ الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير : إن كانت علمت لك فاعطني حقي، وقوله : فاسألوا أهل الذكر، اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني : من التي ذكر غير الوجه الأخير. وأنزلنا إليك الذكر : هو القرآن، وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين. وقيل : الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه، لأن النص والظاهر لا يحتاجان إلى بيان. وقال الزمخشري : مما أمروا به ونهوا عنه، ووعدوا وأوعدوا. وقال ابن عطية : لتبين بسردك بنص القرآن ما نزل إليهم. ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد انتهى. ولعلهم يتفكرون أي : وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا، والسيئات نعت لمصدر محذوف أي : المكرات السيئات قاله الزمخشري، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة، أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية. وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات. وعلى القولين، قبله مفعول بامن، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول صلى الله عليه وسلّم. وقال مجاهد : هو نمرود، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض
٤٩٤
كما فعل بقارون، وذكر لنا أنّ أخلاطاً من بلاد الروم خسف بها، وحين أحسن أهلها بذلك فرّ أكثرهم، وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته. من حيث لا يشعرون : من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة، أو في منامهم روي هذا وما قبله عن ابن عباس. وقال الضحاك، وابن جريج، ومقاتل : في ليلهم ونهارهم أي : حالة ذهابهم ومجيئهم فيمما. وقيل : في تقلبهم في مكرهم وحيلهم، فيأخذهم قبل تمام ذلك. وقال الزجاج : جميع ما يتقلبون فيه، فما هم بسابقين الله ولا فائتيه. والأخذ هنا الإهلاك كقوله :﴿فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنابِهِا﴾ وعلى تخوف على تنقص قاله : ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقال ابن قتيبة : يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عدي : هو النقص بلغة أزدشنوءة. وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ : بأنه التنقص في لغة هذيل. وأنشده قول أبي كثير الهذلي :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٨٧
تخوف الرجل منها تامكاً قرداكما تخوف عود النبة السقر
وهذا التخوف بمعنى التنقص، قيل : من أعماله، وقيل : يأخذ واحداً بعد واحد، ورويا عن ابن عباس. وقال الزجاج : ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم. وقيل : على تخوف، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهم قاله قتادة. وقال الزمخشري : على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله : من حيث لا يشعرون انتهى. وقاله الضحاك، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى. وقال ابن بحر : على تخوف ضد البغتة أي : على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق، ولهذا ختم بقوله تعالى : إن ربكم لرؤوف رحيم، لأنّ في ذلك مهلة وامتداد وقت، فيمكن فيه التلافي. وقال الليث بن سعد : على تخوف على عجل. وقيل : على تقريع بما قدّموه، وهذا مروي عن ابن عباس. ولما كان تعالى قادراً على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة.
﴿أَوَ لَمْ﴾ : لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ، ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره. وقرأ السلمي، والأعرج،
٤٩٥


الصفحة التالية
Icon