والذي يظهر من لفظ الآية أنّ اللبن يكون وسطاً بين الفرث والدم، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى الرازي أنه على خلاف الحس والمشاهدة. ويحتمل أن تكون البينية مجازية، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولاً، وتولده من الدم الناشىء من لطيف ما كان في الفرث ثانياً كما قرره الرازي. ومِن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما. ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال، فتتعلق بمحذوف، لأنه لو تأخر لكان صفة أي : كائناً من بين فرث ودم. ويجوز أن يكون من بين فرث بدلاً من ما في بطونه. وقرأت فرقة : سيغاً بتشديد الياء، وعيسى بن عمر : سيغاً مخففاً من سيغ كهين المخفف من هين، وليس بفعل لازم كان يكون سوغاً. والسائغ : السهل في الحلق اللذيذ، وروي في الحديث "أنّ اللبن لم شرق به أحد قط" ولما ذكر تعالى ما منّ به من بعض منافع الحيوان، ذكر ما منّ به من بعض منافع النبات. والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون، وكررت من للتأكيد، وكان الضمير مفرداً راعياً لمحذوف أي : ومن عصير ثمرات، أو على معنى الثمرات وهو الثمر، أو بتقدير من المذكور. وقيل : تتعلق بنسقيكم، فيكون معطوفاً على مما في بطونه، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة، فيكون من عطف الجمل، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل : معطوف على الأنعام أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة، ثم بين العبرة بقوله : تتخذون. وقال الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. فحذف ما هو لا يجوز على مذهب البصريين، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله : بكفي كان من أرمي البشر. تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه انتهى. وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال : أي وإن من ثمرات، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء، ومن ثمرات خبره انتهى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٩
والسكر في اللغة الخمر. قال الشاعر :
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهمإذا جرى منهم المزّاء والسكر
٥١٠
وقال الزمخشري : سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو : رشد رشداً ورشداً. قال الشاعر :
وجاءونا بهم سكر علينافأجلى اليوم والسكران صاحي
وقاله : ابن مسعود، وابن عمر، وأبو رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، والكلبي، وابن جبير، وأبو ثور، والجمهور. وهذه الآية مكية نزلت قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بالمدينة فهي منسوخة. قال الحسن : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر. وقال ابن عباس : هو الخل بلغة الحبشة. وقيل : العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً باعتبار مآله إذا ترك. وقال أبو عبيدة : السكر الطعم، يقال هذا سكر لك أي طعم، واختاره الطبري قال : والسكر في كلام العرب ما يطعم. وأنشد أبو عبيدة :
جعلت أعراض الكرام سكراً
أي : تنقلت بأعراضهم. وقيل : هو من الخمر، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها، قاله الزمخشري، وتبع الزجاج قال : يصف أنه يخمر بعيوب الناس، وعلى هذه الأقوال لا نسخ. وقال الزجاج : قول أبي عبيدة لا يصح، وأهل التفسير على خلافه. وقيل : السكر ما لا يسكر من الأنبذة، وقيل : السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر انتهى. وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أنّ ذلك منسوخ، وإذا لم نقل بنسخ فقيل : جمع بين العتاب والمنة. يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم، وبالمنة على اتخاذ ما يحل، وهو الخل والرب والزبيب والتمر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن انتهى. فيكون من عطف الصفات، وظاهر العطف المغايرة. ولما كان مفتتح الكلام : وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله : يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ﴾. وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبر عن نفسه تعالى بقوله : نسقيكم. ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال : تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته. ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر العسل النحل. ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة. ولذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلّم حين أسري به، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٩