وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : يحدث الله تعالى في الهواء ظلاً كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل النرنجبين وهو محسوس، وقليلاً لطيف الأجزاء صغيرها، وهو الذي ألهم الله تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئاً من تلك الأجزاء، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فالمجتمع من ذلك هو العسل. وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية، لا للتبعيض انتهى. وظاهر العطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي : فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران. وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد، ثم عادت إلى مكانها الأول. وقيل : سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي : في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به. وقيل : المراد بقوله ثم كلي، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما، إلا أنّ كلي بمعنى اقصدي الأكل، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها. وقال مجاهد : ذللاً غير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللاً حال من سبيل ربك كقوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا﴾ وقال قتادة : أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد : يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللاً حال منالنحل كقوله :
٥١٢
﴿وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ﴾ ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله : يخرج من بطونها شراب، وهو العسل. وسماه شراباً لأنه مما يشرب، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن. وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها، وهو مبدأ الغاية الأولى، والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ولذلك قال الحريري :
تقل هذا مجاج النحل تمدحهوإن ذممت تقل قيء الزنابير
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٩
والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم. وروي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. وعنه أيضاً : أما العسل فونيم ذباب، فظاهر هذا أن العسل يخرج من غير الفم، وقد خفي من أي المخرجين يخرج، أمن الفم ؟ أم من أسفل ؟ وحكي أن سليمان عليه السلام، والاسكندر، وأرسطاطاليس، صنعوا لها بيوتاً من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها ؟ فلم تضع من العسل شيئاً حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة. وقال الحسن : لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، فجعله لعاباً كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم. وقيل : من بطونها من أفواهها، سمى الفم بطناً لأنه في حكم البطن، ولأنه مما يبطن ولا يظهر. واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد، وذلك لاختلاف طباع النحل، واختلاف المراعي. وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى كما في الحديث "جرست نحلة العرفط" وقيل : الأبيض تلقيه شباب النحل، والأصفر كهولها، والأحمر شبيبها. والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة. وقلَّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث، ولم يكن فيما تقدم في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل، وليس المراد بالناس هنا العموم، لأن كثيراً من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم. ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء، وإما لدلالته على مطلق الشفاء أي : فيه بعض الشفاء. وروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، والفراء، وابن كيسان : أن الضمير في فيه عائد على القرآن، أي : في القرآن شفاء للناس. قال النحاس : وهو قول حسن أي : فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. قال القاضي أبو بكر بن العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء، ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ولما كان أمر النحل عجيباً في بنائها تلك البيوت المسدسة، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في النقلة معه، وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى : إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.