وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى. وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول : إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لولا الآلات ما أمكن. وقال الزمخشري : ما يوافق كلامهما قال : مسخرات، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك. ثم أحسن أخيراً في قوله : ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى. لآيات : جمع ولم يفرد، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل، والفضاء الذي بين السماء والأرض، والإمساك الذي لله تعالى، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال : لقوم يؤمنون، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٧
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُم وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَـاثًا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـالا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ : لما ذكر تعالى ما من به عليهم من خلقهم، وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها. والسكن فعل بمعنى مفعول، كالقنص، والنفص. وأنشد الفراء :
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا
يا ويح نفسي من حفر القراميص وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية، وكأنه تعالى ذكر أولاً ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل، بل ينتقل الناس إليها. ثم ذكر ثانياً ما منّ به علينا من المتخذ من جلود الأنعام، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم، أو ذكر أولاً البيوت على طريق العموم، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصاً تنبيهاً على حال أكثر العرب، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر، وبيوت الصوف والوبر. وقال ابن سلام : تندرج لأنها ثابتة فيها، فهي منها. ومعنى تستخفونها : تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل. يوم ظعنكم : يوم ترحلون خف عليكم حملها ونثلها، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي : مدة النجعة والإقامة. وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ظعنكم بفتح العين، وباقي السبعة بسكونها، وهما لغتان. وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والعر لمكان حرف الخلق، والظاهر أنّ أثاثاً مفعول، والتقدير : وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً. وقيل : أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى : جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً، فيكون ذلك معطوفاً على من جلود الأنعام، كما تقول : جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجروراً على مجرور، ومنصوباً على منصوب كما تقول : ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر. والمتاع : ما يتمتع به أي : ينتفع به. وقال ابن عباس : الزينة. وقال المفضل : المتجر والمعاش. وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد وجمع
٥٢٣
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٧
بينهما لاختلاف اللفظين كقوله : وألفى قولها كذباً وميناً. وغيا تعالى ذلك بقوله : إلى حين، فقال ابن عباس : إلى الموت. وقال مقاتل : إلى بلى ذلك الشيء. وقيل : إلى انقضاء حاجتكم منه. ولما ذكر تعالى ما منّ به عليهم ما سبق ذكره، وكانت بلادهم غالباً عليها الحر، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس. وقال ابن عباس ومجاهد : ظلال الغمام. وقال ابن السائب : طلال البيوت. وقال قتادة، والزجاج : ظلال الشجر. وقال ابن قتيبة : ظلال الشجر والجبال والأكنان من الجبال هي الغيران، والكهوف، والبيوت المنحوتة منها. والسربال ما لبس على البدن من : قميص، وقرقل، ومجول، ودرع، وجوشن، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها. واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قاله الزجاج، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر. وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط، قاله عطاء الخراساني. وهذا في بلاد الحجاز، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم :


الصفحة التالية
Icon