قال ابن عطية : وقوله صددتم عن سبيل الله، يدل على أنّ الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فسر الزمخشري قال : لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة. ولا يدل على ذلك لخصوصه، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم. ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا. قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إنْ رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فثبتهم الله. ولا تشتروا : ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمناً قليلاً عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا أنّ ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم. وقال ابن عطية : هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله، أو فعل ما يجب عليه تركه، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عبادة فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة، بأنّ هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، وينقضي عنها، والتي في الآخرة باقية دائمة. ودل قوله : وما عند الله باق، على أن نعيم الجنة لا ينقطع، وفي ذلك حجة على جهم بن صفوان إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقرأ عاصم، وابن كثير : ولنجزين بالنون، وباقي السبعة بالياء. وصبروا : أي جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار، وترك المعاصي، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسن ما كانوا يعملون. قيل : من التنفل بالطاعات، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختاراً غير ملزوم بها. وقيل : ذكر الأحسن ترغيباً في عمله، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن. وقيل : الأحسن هنا بمعنى الحسن، فليس أفعل التي للتفضيل. والذي يظهر أنّ المراد بالأحسن هنا الصبر أي : وليجزين الذين صبروا بصبرهم أي : بجزاء صبرهم، وجعل الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه، فالصبر هو رأسها، فكان الأحسن لذلك. ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما. لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما. وهو مؤمن : جملة حالية، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ أو يراد بمثقال ذرة من إيمان، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين، والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه
٥٣٣
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨
حياة طيبة، أنّ ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور ؛ ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة، وقال الحسن، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، وابن زيد : ذلك في الجنة. وقال شريك : في القبر. وقال عليّ، ووهب بن منبه، وابن عباس، والحسن في رواية عنهما هي : القناعة، وعن ابن عباس والضحاك : الرزق الحلال، وعنه أيضاً : السعادة. وقال عكرمة : الطاعة. وقال قتادة : الرزق في يوم بيوم، وقال إسماعيل بن إبي خالد : الرزق الطيب والعمل الصالح، وقال أبو بكر الورّاق : حلاوة الطاعة، وقيل : العافية والكفاية، وقيل : الرضا بالقضاء، ذكرهما الماوردي. وقال الزمخشري : المؤمن مع العمل الصالح إنْ كان موسراً فلا مقال فيه، وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى. والفاجر إن كان معسراً فلا إشكال في أمره، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وقال ابن عطية : طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب. وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظة من مفرداً، وفي ولنجزينهم على معناها من الجمع، فجمع. وروي عن نافع : وليجزينهم بالياء بدل النون، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفاً على فلنحيينه، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفتان. ولا يكون من عطف جواب على جواب، لتغاير الإسناد، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب، وذلك لا يجوز. فعلى هذا لا يجوز : زيد قلت والله لأضربن هنداً ولينفينها، يريد ولينفيها زيد. فإنْ جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي : وقال زيد لينفينها لأن، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه، وأن تحكى على المعنى. فمن الأول :﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى ﴾ ومن الثاني :﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ﴾ ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٢٨


الصفحة التالية
Icon