﴿فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ﴾ أي باشروه بالإحساس والضمير في ﴿أَحَسُّوا ﴾ عائد على أهل المحذوف من قوله ﴿قَسَمْنَا بَيْنَهُم﴾ ولا يعود على قوله ﴿قَوْمًا ءَاخَرِينَ﴾ لأنه لم يذكر لهم ذنب يركضون من أجله، والضمير في ﴿مِنْهَآ﴾ عائد على القرية، ويحتمل أن يعود على ﴿بَأْسَنَآ﴾ لأنه في معنى الشدة، فأنث على المعنى ومن على هذا السبب، والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين. قيل : ويجوز أن شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فهم ﴿يَرْكُضُونَ﴾ الأرض بأرجلهم، كما قال ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ وجواب لما ﴿إِذَا﴾ الفجائية وما بعدها، وهذا أحد الدلائل على أن لما في هذا التركيب حرف لا ظرف، وقد تقدم لنا القول في ذلك.
وقوله :﴿لا تَرْكُضُوا ﴾ قال ابن عطية : يحتمل أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة، فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤا بهم بأن قالوا للهاربين منهم : لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ﴾ صلحاً أو جزية أو أمراً يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم يا لثارات النبيّ المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم، هذا كله مروي ويحتمل أن يكون قوله :﴿لا تَرْكُضُوا ﴾ إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حضوراء ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يتخاصموا ويسألوا عن وجه تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
﴿لا تَرْكُضُوا ﴾ ﴿وَمَسَـاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ﴾ كما كنتم تطمعون لسفه آرائكم.
وقال الزمخشري : يحتمل أن يكون يعني القائل بعض الملائكة، أو من ثم من المؤمنين،
٣٠٠
أو يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.
﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ من العيش الرافه والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفة ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ﴾ غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ﴿ارْجِعُوا ﴾ واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقولوا لكم : بم تأمرون وماذا ترسمون، وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ويستضيئون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع، ويستطرون ساحئب أكفكم ويميرون إخلاف معروفكم وأياديكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ انتهى.
ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا : يا ويل هذا زمانك، وتقدم تفسير الويل في البقرة. والظلم هنا الإشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك، واسم ﴿زَالَت﴾ هو اسم الإشارة وهو ﴿تِلْكَ﴾ وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى ﴿دَعْوَاهُمْ﴾. قال المفسرون : فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ والدعوى مصدر دعا يقال : دعا دعوى ودعوة كقوله ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا﴾ لأن المويل كأنه يدعو الويل. وقال الحوفي : وتبعه الزمخشري وأبو البقاء :﴿تِلْكَ﴾ اسم ﴿زَالَت﴾ و﴿دَعْوَاهُمْ﴾ الخبر، ويجوز أن يكون ﴿دَعْوَاهُمْ﴾ اسم ﴿زَالَت﴾ و﴿تِلْكَ﴾ في موضع الخبر انتهى. وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المتقدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان، فإذا قلت : كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلى أن يكون اسم كان وصديقي الخبر، كقولك : ضرب موسى عيسى، فموسى الفاعل وعيسى المفعول، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلاّ أبو العباس أحمد بن عليّ عُرِّف باب الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ونبهائهم، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون ﴿تِلْكَ﴾ اسم ﴿زَالَت﴾ و﴿دَعْوَاهُمْ﴾ الخبر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣