ولما أقام البرهان على وحدانيته وانفراده بالألوهية نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل بقوله ﴿فَسُبْحَـانَ اللَّهِ﴾ ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكم فقال ﴿لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه، ولما كانت عادة الملوك أنهم لا يسألون عما يصدر من أفعالهم مع إمكان الخطأ فيها، كان ملك الملوك أحق بأن لا يسأل هذا مع علمنا أنه لا يصدر عنه إلاّ ما اقتضته الحكمة العارية عن الخلل والتعقب، وجاء ﴿عَمَّا يَفْعَلُ﴾ إذ الفعل
٣٠٥
جامع لصفات الأفعال مندرج تحته كل ما يصدر عنه من خلق ورزق ونفع وضر وغير ذلك، والظاهر في قوله ﴿لا يُسْـاَلُ﴾ العموم في الأزمان. وقال الزجاج : أي في القيامة ﴿لا يُسْـاَلُ﴾ عن حكمه في عباده ﴿وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ عن أعمالهم. وقال ابن بحر : لا يحاسب وهم يحاسبون. وقيل : لا يؤاخذ وهم يؤاخذون انتهى. ﴿وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ لأنهم مملوكون مستعبدون واقع منهم الخطأ كثيراً فهم جديرون أن يقال لهم لم فعلتم كذا.
وقرأ الحسن : لا يُسَل ويُسَلُون بفتح السين نقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة.
ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال :﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِا ءَالِهَةً﴾ استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وزاد في هذا التوبيخ قوله ﴿مِن دُونِهِمْ﴾ فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكاً لا من جهة العقل ولا من جهة النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به ﴿هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ﴾ أي عظة للذين معي وهم أمته ﴿وَذَكَرَ﴾ للذين ﴿مِّن قَبْلِى﴾ وهم أمم الأنبياء، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون ﴿هَـاذَا﴾ إشارة إلى القرآن. والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم. والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي ﴿هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ﴾ فهذا برهاني في ذلك ظاهر. وقرأ الجمهور : بإضافة ﴿ذِكْرُ﴾ إلى ﴿مِنْ﴾ فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
وقرىء بتنوين ﴿ذِكْرُ﴾ فيهما و﴿مِنْ﴾ مفعول منصوب بالذكر كقوله ﴿أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا﴾. وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين ﴿ذِكْرُ﴾ فيهما وكسر ميم ﴿مِنْ﴾ فيهما، ومعنى ﴿مَعِىَ﴾ هنا عندي، والمعنى ﴿هَـاذَا ذِكْرُ مَن﴾ عندي و﴿مِّن قَبْلِى﴾ أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم، ودخول ﴿مِنْ﴾ على مع نادر، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أُجري مجرى الظرف فدخلت عليه ﴿مِنْ﴾ } كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعف أبو حاتم هذه القراءة لدخول كما دخلت على قبل وبعد وعند، وضعف أبو حاتم هذه القراءة لدخول ﴿مِنْ﴾ على مع ولم ير لها وجهاً. وعن طلحة ﴿ذِكْرُ﴾ منوناً ﴿مَعِىَ﴾ دون ﴿مِنْ﴾ ﴿وَذَكَرَ﴾ منوناً ﴿قَبْلِى﴾ دون ﴿مِنْ﴾. وقرأت فرقة ﴿وَذِكْرُ مَن﴾ بالإضافة ﴿وَذَكَرَ﴾ منوناً ﴿مِّن قَبْلِى﴾ بكسر ميم من. وقرأ الجمهور ﴿الْحَقِّ﴾ بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، ومن ثم جاء الإعراض عنه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق. وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ﴾ لإعراضهم عنه وليس المعنى ﴿فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ لأنهم لا يعلمون بل المعنى ﴿فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ ولذلك ﴿لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ﴾ وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن ﴿الْحَقِّ﴾ بالرفع. قال صاحب اللوامح : ابتداءً والخبر مضمر، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر. وقال ابن عطية : هذا القول هو ﴿الْحَقِّ﴾ والوقف على هذه القراءة على ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٩٣
وقال الزمخشري : وقرىء ﴿الْحَقِّ﴾ بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى.