قال الزمخشري : والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزأ عقيب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهم السلام حيث كان أمياً لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة. وقيل : في ثلاث وعشرين سنة وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين، ولأن
٤٩٦
بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقاً انتهى.
واللام في ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ﴾ لام العلة. وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى. وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح. وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله ﴿وَرَتَّلْنَـاهُ﴾ أي فصلناه. وقيل : بيناه. وقيل : فسرناه.
﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بياناً وتفصيلاً. وقال الزمخشري :﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل معناه كذا أو ﴿وَلا يَأْتُونَكَ﴾ بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى. وقيل :﴿وَلا يَأْتُونَكَ﴾ بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ، والمفضل عليه محذوف أي ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ من مثلهم ومثلهم قولهم ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٣
و﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ﴾. قال الكرماني : متصل بقوله ﴿أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاِذٍ﴾ الآية. قيل : ويجوز أن يكون متصلاً بقوله ﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ انتهى. والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقاً كان في ضمن كلامهم أنهم ذو ورشد وخير، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعتراضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم ﴿شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا﴾ والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه. وفي الحديث "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم". وهذا قول الجمهور. وقيل : هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي. وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجه إذا لم يدر أين ذهب. ويقال : مضى على وجهه إذا أسرع متوجهاً لقصده و﴿شَرٌّ﴾ و﴿أَضَلُّ﴾ ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل. وقوله ﴿شَرٌّ مَّكَانًا﴾ أي مستقراً وهو مقابل لقوله ﴿خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا﴾ ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر.
وأعربوا ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ والجملة من ﴿أُوالَئاِكَ﴾ في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون ﴿الَّذِينَ﴾ خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ﴾ ثم استأنف إخباراً أخبر عنهم فقال ﴿أُوالَئاِكَ شَرٌّ مَّكَانًا﴾
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٣
٤٩٧
لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم، فناسب أن ذكر أولاً من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى.
و﴿الْكِتَـابَ﴾ هنا التوراة و﴿هَـارُونَ﴾ بدل أو عطف بيان، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا. وأن يكون ﴿وَزِيرًا﴾ والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان في الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضاً، والمذهوب إليهم القبط وفرعون. وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما ﴿فَدَمَّرْنَـاهُمْ﴾ والتدمير أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه. وقصة موسة ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٧


الصفحة التالية
Icon