﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ سلى نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإنما أنت رسول تبشر تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلاً لوجوه التهم بقوله ﴿قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي لا أطلب مالاً ولا نفعاً يختص بي. والضمير في ﴿عَلَيْهِ﴾ عائد على التبشير والإنذار، أو على القرآن،
٥٠٧
أو على إبلاغ الرسالة أقوال. والظاهر في ﴿إِلا مَن شَآءَ﴾ أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور. فعلى هذا قيل بعباده ﴿إِلا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِا سَبِيلا﴾ فليفعل. وقيل : لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسؤولي. وقيل : هو متصل على حذف مضاف تقديره : إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلاً أي إلاّ أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله، لأنه تعالى يأجرني على ذلك. وقيل : إلاّ أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجراً إلاّ الإنفاق في سبيل الله، فجعل الإنفاق أجراً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠١
ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئاً أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه. ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله ﴿الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ﴾ لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُا﴾. وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقروناً بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد. وفي الحديث :"من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان".
﴿وَكَفَى بِهِا بِذُنُوبِ عِبَادِهِا خَبِيرًا﴾ أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد للكافر. وفي بعض الأخبار كفى بك ظفراً أن يكون عدوك عاصياً وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول : كفى بالعلم جمالاً. وكفى بالأدب مالاً، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم.
ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على
القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم. وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل ﴿الَّذِى ﴾ أن يكون صفة للحي الذي لا يموت. ويتعين على قراءة زيد بن عليّ ﴿الرَّحْمَـانِ﴾ بالجر وأما على قراءة الجمهور ﴿الرَّحْمَـانِ﴾ بالرفع فإنه يحتمل أن يكون ﴿الَّذِى ﴾ صفة للحي و﴿الرَّحْمَـانِ﴾ خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يكون ﴿الَّذِى ﴾ مبتدأ و﴿الرَّحْمَـانِ﴾ خبره. وأن يكون ﴿الَّذِى ﴾ ﴿وَزَادَهُمْ﴾
٥٠٨
أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن ﴿زَادَهُمْ﴾ ضلالاً يختص به مع ضلالهم السابق، وكان حقه أن يكون باعثاً على فعلى السجود والقبول. وقال الضحاك : سجد أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعثمان بن مظعون وعمرو ابن غلسة، فرآهم المشركون فأخذوا في ناحية المسجد يستهزوؤن، فهذا المراد بقوله ﴿وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ ومعنى ﴿نُفُورًا ﴾ فراراً.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠١
٥٠٩
﴿تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَا إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَا وَمَن يَفْعَلْ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠٩


الصفحة التالية
Icon