ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء ﴿لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ﴾ وهذه إضافة تشريف وتفضل، وهو جمع عبد. وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، وراجل ورجال، أي الذين يعبدونه حق عبادته. والظاهر أن ﴿وَعِبَادُ﴾ مبتدأ و﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ﴾ الخبر. وقيل : أولئك الخبر و﴿الَّذِينَ﴾ صفة، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب. وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله. وقرأ اليماني : وعباد جمع عابد كضارب وضراب. وقرأ الحسن : وعُبَدُ بضم العين والباء. وقرأ السلمي واليماني ﴿يَمْشُونَ﴾ مبنياً للمفعول مشدداً. والهون : الرفق واللين. وانتصب ﴿هَوْنًا﴾ على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق. وقال مجاهد : بالحلم والوقار. وقال ابن عباس : بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال ابن عطية ﴿هَوْنًا﴾ عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال ﴿هَوْنًا﴾ بمعنى أمره هون أي ليس بخشن، وذهبت فرقة إلى أن ﴿هَوْنًا﴾ مرتبط بقوله ﴿يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ﴾ أي إن المشي هو الهون، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي ﴿هَوْنًا﴾ مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينا، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأن رب ماش ﴿هَوْنًا﴾ رويداً وهو ذنب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب. وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام :"من مشى منكم في طمع فليمش رويداً". أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠٩
كلهم يمشي رويداكلهم يطلب صيداً
وقال الزهري : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم : أنه رأى في النوم من فسر له ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. وقال عياض بن موسى : كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعد وخطوة خلاف مشية المختال، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال :"إنما ينحط من صبب". وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً.
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ﴾ أي مما لا يسوغ الخطاب به ﴿قَالُوا سَلَـامًا﴾ أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه ﴿سَلَـامٌ عَلَيْكَ﴾ قاله الأصم. وقال مجاهد : قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا. وقيل : هو على إضمار فعل تقديره سلمنا ﴿سَلَـامًا﴾ فهو جزء من متعلق الجملة المحكية. قال ابن عطية : والذي أقوله أن ﴿قَالُوا ﴾ هو العامل في ﴿سَلَـامًا﴾ لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال الزمخشري : تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم. وقيل : قالوا سداداً من
٥١٢
القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله :
ألا لا يجهلن أحد علينافنجهل فوق جهل الجاهلينا
انتهى. وقال الكلبي : وأبو العالية نسختها آية القتال. وقال ابن عطية : وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه. ورجح به أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة، والآية مكية فنسختها آية السيف. وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة، فقال له : إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، وكان حكى ذلك للمأمون قال : فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به ؟ قال : كان يقول لي سلاماً سلاماً، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب. فخزي إبراهيم واستحيا، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠٩