هي مكية كلها إلا في قوله. وعن ابن عباس وقتادة إلاّ قوله ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ الآية فمدنية. وقال مقاتل : إلاّ من أولها إلى ﴿جُرُزًا﴾ ومن قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ الآيتين فمدني. وسبب نزولها أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصِفالهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت : سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال :"غداً أخبركم" ولم يقل إن شاء الله، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوماً فأرجف كفار قريش، وقالوا : إن محمداً قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن. وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩١
وروي في هذا السبب أن اليهود قالت : إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنيّ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ. فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك ﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أن لما قال ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعاً، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولداً، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولداً، المبشر المؤمنين بالإجر الحسن. ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَا ﴾ إلى الغيبة في قوله ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ لما في ﴿عَبْدِهِ﴾ من الإضافة المقتضية تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
﴿وَالْكِتَـابِ﴾ القرآن، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر ﴿عِوَجَا ﴾ ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي، والمعنى أنه في غاية الإستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه، لا حوشية ولا عيّ في تراكيبه ومبانيه. و﴿قَيِّمًا﴾ تأكيد لإثبات الإستقامة إن كان مدلوله مستقيماً وهو قول ابن عباس والضحاك. وقيل :﴿قَيِّمًا﴾ بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم. وقيل :﴿قَيِّمًا﴾ على سائر الكتب بتصديقها. واختلفوا في هذه الجملة المنفية، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على ﴿أَنزَلَ﴾ فهي داخلة في الصلة، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب ﴿قَيِّمًا﴾ أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من ﴿الْكِتَـابُ﴾ لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقدره جعله ﴿قَيِّمًا﴾. وقال ابن عطية :﴿قَيِّمًا﴾ نصب على الحال من
٩٥
﴿الْكِتَـابُ﴾ فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ، أي أنزل الكتاب ﴿قَيِّمًا﴾ واعترض بين الحال وذي الحال قوله ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا ﴾ ذكره الطبري عن ابن عباس، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله ﴿قَيِّمًا﴾. أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٩١