وجاء هنا :﴿إِذْ قَالَ مُوسَى ﴾، وهو خبر، وفي طه :﴿لَّعَلِّى ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ﴾، وفي القصص :﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى﴾، وهو ترج، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر. ولكن الرجاء إذا قوي، جاز للراجي أن يخبر بذلك، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع. وأتى بسين الاستقبال، إما لأن المسافة كانت بعيدة، وإما لأنه قد يمكن أن تبطىء لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه. والشهاب : الشعلة، والقبس : النار المقبوسة، فعل بمعنى مفعول، وهو القطعة من النار في عود أو غيره، وتقدم ذلك في طه. وقرأ الكوفيون : بشهاب منوناً، فقبس بدل أو صفة، لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة : بالإضافة، وهي قراءة الحسن. قال الزمخشري : أضاف الشهاب إلى القبس، ، واتبع في ذلك أبا الحسن. قال أبو الحسن : الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول : دار آجر، وسوار ذهب. والظاهر أن الضمير في ﴿جَآءَهَا﴾ عائد على النار، وقيل : على الشجرة، وكان قد رآها في شجرة سمر. وقيل : عليق، وهي لا تحرقها، كلما قرب منها بعدت. و﴿نُودِىَ﴾ المفعول الذي لم يسم فاعله، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام. و﴿ءَانٍ﴾ على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها، ويجوز أن تكون مصدرية. أما الثنائية التي تنصب المضارع، وبورك صلة لها، والأصل حرف الجر، أي بأن بورك، وبورك خبر. وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر. وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وتقديره بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن والقصة ؟ قلت : لا، لأنه لا بد من قد. فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ قلت : لا يصح، لأنها علامة ولا تحذف. انتهى. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وبورك فعل دعاء، كما تقول : بارك الله فيك. وإذا كان دعاء، لم يجز دخول قد عليه، فيكون كقوله تعالى :﴿وَالْخَـامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ﴾ في قراءة من جعله فعلاً ماضياً، وكقول العرب : إما أن جزاك الله خيراً، وإما أن يغفر الله لك، وكان الزمخشري بنى ذلك على ﴿أَنا بُورِكَ﴾ خبر لا دعاء، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأجاز الزجاج أن تكون ﴿أَنا بُورِكَ﴾ في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو على إسقاط الخافض، أي نودي بأن بورك، كما تقول : نودي بالرخص. ويجوز أن تكون أن الثنائية، أو المخففة من الثقيلة، فيكون بورك دعاء. وقيل : المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء، أي نودي هو، أي النداء، ثم فسر بما بعده. وبورك معناه : قدّس وطهر وزيد خيره، ويقال : باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك. وقال الشاعر :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاوبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال آخر :
بورك الميت الغريب كما
بورك نبع الرمان والزيتون
وقال عبد الله بن الزبير :
فبورك في بنيك وفي بنيهمإذا ذكروا ونحن لك الفداء
و﴿مِّنَ﴾ : المشهور أنها لمن يعلم، فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم : أراد تعالى بمن في النار ذاته،
٥٥
وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف، أي بورك من قدرته وسلطانه في النار. وقيل لموسى عليه السلام : أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيه النار. وقال السدّي : من للملائكة الموكلين بها. وقيل : من تقع هنا على ما لا يعقل. فقال ابن عباس : أراد النور. وقيل : الشجرة التي تتقد فيها النار. وقيل : والظاهر في ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أنه لمن يعلم تفسير ﴿حَدِيثُ مُوسَى ﴾، وفسر بالملائكة، ويدل عليه قراءة أبي ؛ فيما نقل أبو عمرو الداني : وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة ؛ ومن حولها من الملائكة، وتحمل هذه القراءة على التفسير، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، وفسر أيضاً بموسى والملائكة عليهم السلام معاً. وقيل : تكون لما لا يعقل، وفسر بالأمكنة التي حول النار ؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم، وهو تكليم الله لموسى عليه السلام ؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته.
والظاهر أن قوله :﴿وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ داخل تحت قوله :﴿نُودِىَ﴾. أي لما نودي ببركة من ذكر، نودي أيضاً بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير ابن عباس أن من أريد به الله تعالى، فإن ذلك دال على التحيز، فأتى بما يقتضي التنزيه. وقال السدّي : هو من كلام موسى، لما سمع النداء قال :﴿وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ تنزيهاً لله تعالى عن سمات المحدثين. وقال ابن شجرة : هو من كلام الله، ومعناه : وبورك من سبح الله، وهذا بعيد من دلالة اللفظ. وقيل :﴿وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ خطاب لمحمد عليه لصلاة والسلام، وهو اعتراض بين الكلامين، والمقصود به التنزيه.