ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له :﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية. والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية : من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور : فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانت وكزة واحدة، والشعبي : بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله :﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ﴾، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن. ﴿وَأَنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ﴾ : يجوز أن يكون حالاً، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون. ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد ؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك، قاله الحسن ؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي.
﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذًا﴾ : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس. قال ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري : فإن قلت : إذاً جواب وجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء ؟ قلت : قول فرعون :﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ﴾ فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت ؛ فقال له موسى : نعم فعلتها،
١٠
مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملوا قوله :﴿فَعَلْتُهَآ إِذًا﴾ من المواضع التي جاءت فيها جواباً بالآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢
﴿وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ﴾، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين، بأن وكزني إياه تأتي على نفسه. وقال أبو عبيدة : من الناسين، ونزع لقوله :﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾. وفي قراءة عبد الله، وابن عباس : وأنا من الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلّم. وقال الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته :﴿إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ﴾ أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل : من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس على فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن معنى ﴿وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ﴾، أي من المحبين لله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل : والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله :﴿إِنَّكَ لَفِى ضَلَـالِكَ الْقَدِيمِ﴾، أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في : تمنها وعبدت، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملته المذكورين قبل ﴿أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله :﴿إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ﴾. وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفاً بمعنى حين، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية : لما بكسر اللام وتخفيف الميم، أي يخوفكم. وقرأ عيسى : حكماً بضم الكاف ؛ والجمهور : بالإسكان. والحكم : النبوة. ﴿وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ : درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول. وقيل : الحكم : العلم والفهم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢


الصفحة التالية
Icon