وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به، فكان ذلك عذراً واضحاً أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها. وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافياً عنه، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها. وفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان، وإن كانت المسافة بينهما قريبة، كما خفي ملك يوسف على يعقوب، وذلك لأمر أراده الله تعالى. قال الزمخشري : ومن نوكي القصاص من يقف على قوله :﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾، وجدتها يريد أمر عظيم، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى. وقال أيضاً فإن قلت : من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ قلت : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصاً في زمان بني سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. انتهى.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
وأسند التزيين إلى الشيطان، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى. ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾، أي الشيطان، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. ﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾، أي إلى الحق. وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد، والكسائي : ألا، بتخفيف لام الألف، فعلى هذا له أن يقف على :﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾، ويبتدىء على :﴿أَلا يَسْجُدُوا ﴾. قال الزمخشري : وإن شاء وقف على ألا يا، ثم ابتدأ اسجدوا، وباقي السبعة : بتشديدها، وعلى هذا يصل قوله :﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ بقوله :﴿أَلا يَسْجُدُوا ﴾. وقال الزمخشري : وفي حرف عبد الله، وهي قراءة الأعمش : هلا وهلا، بقلب الهمزتين هاء، وعن عبد الله : هلا يسجدون، بمعنى : ألا تسجدون، على الخطاب. وفي قراءة أبي : ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السمائ والأرض ويعلم سركم وما تعلنون، انتهى. وقال بن عطية : وقرأ الأعمش : هلا يسجدون ؛ وفي حرف عبد الله : ألا هل تسجدون، بالتاء، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون، بالتاء أيضاً ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون، وقرأ بالتاء أو الياء، فتخريجها واضح. وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله :﴿أَلا يَسْجُدُوا ﴾ في موضع نصب، على أن يكون بدلاً من قوله :﴿أَعْمَـالَهُمْ﴾، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا. وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر، على أن يكون بدلاً من السبيل، أي قصدهم عن أن لا يسجدوا. وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة، أي فصدهم عن أن يسدجوا لله، ويكون ﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ معترضاً بين المبدل منه والبدل، ويكون التقدير : لأن لا يسجدوا. وتتعلق اللام إما بزين، وإما بقصدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، أي علة تزيين الشيطان لهم، أو صدهم عن السبيل، هي انتفاء سجودهم لله، أو لخوفه أن يسجدوا لله. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لا فريدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى. وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، واسجدوا فعل أمر، وسقطت ألف يا التي للنداء، وألف الوصل في اسجدوا، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقط لفظاً سقطا خطاً. ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب. قال الشاعر :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد
وقال :
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال
٦٨
وقال :
ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى
وقال :
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبةفقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدروإن كان جباناً عدا آخر الدهر
وسمع بعض العرب يقول :
ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا
ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا، ثم يبتدىء اسجدوا، وهو وقف اختيار لا اختبار، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يافيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه. ولو حذفنا المنادى، لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه وهو المنادي، فكان ذلك إخلالاً كبيراً. وإذا أبقينا المنادي ولم نحذفه، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء. وليس حرف النداء حرف جواب، كنعم، ولا، وبلى، وأجل ؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين، ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله :


الصفحة التالية
Icon