فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها :﴿قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى ﴾. وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم، وفي الحديث :"كرم الكتاب ختمه" أو لكونه من سليمان، وكانت عالمة بملكه، أو لكون الرسول به الطير، فظنته كتاباً سماوياً ؛ أو لكونه تضمن لطفاً وليناً، لا سباً ولا ما يغير النفس، أو لبداءته باسم الله، أقوال. ثم أخبرتهم فقالت :﴿إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ﴾، كأنها قيل لها : ممن الكتاب وما هو ؟ فقالت :﴿إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ﴾، وإنه كيت وكيت. أبهمت أولاً ثم فسرت، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي، حيث حذفته، أو تحقيراً له، حيث كان طائراً، إن كانت شاهدته. والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم، إلى آخر ما قص الله منه خاصة، فاحتمل أن يكونن من سليمان مقدماً على بسم الله، وهو الظاهر، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق، إذ كانت كافرة، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى. أو كان عنواناً في ظاهر الكتاب، وباطنه فيه بسم الله إلى آخره. واحتمل أن يكون مؤخراً في الكتابة عن بسم الله، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها، قدمته في الحكاية، وإن لم يكن مقدماً في الكتابة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠
وقال أبو بكر بن العربي : كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتاباً بدؤوا بأنفسهم، من فلان إلى فلان، وكذلك جاءت الإشارة. وعن أنس : ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتاباً بدؤوا بأنفسهم. وقال أبو الليث في (كتاب البستان) له : ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز، لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه. وقرأ الجمهور : إنه من سليمان، وإنه بكسر الهمزة فيهما. وقرأ عبد الله : وإنه من سليمان، بزيادة واو عطفاً على ﴿إِنِّى أُلْقِىَ﴾. وقرأ عكرمة، وابن أبي عبلة : بفتحهما، وخرج على البدل من كتاب، أي ألقى إليّ أنه، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها. عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله. وقرأ أبي : أن من سليمان وأن بسم الله، بفتح الهمزة ونون ساكنة، فخرج على أن أن هي المفسرة، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم، استفتاح شريف بارع المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع. وأن في قوله :﴿وَأَن لا تَعْلُوا ﴾، قيل : في موضع رفع على البدل من كتاب. وقيل : في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل. وقال الزمخشري : وأن في ﴿وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى﴾ مفسرة، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه. وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ومعنى لا تعلوا : لا تتكبروا، كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي : أن لا تعلوا، بالغين المعجمة، أي ألا تتجاوزوا الحد، وهو من الغلو. والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا، وتركوا الكفر وعبادة الشمس. وقيل : معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة، وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة، وكذلك كتب الأنبياء.
والظاهر أن
٧٢
الكتاب هو ما نص الله عليه فقط. واحتمل أن يكون مكتوباً بالعربي، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري. واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك، وختمه بخاتمة. وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان، ولما قرأت على الملأ الكتاب، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان، استشارتهم في أمرها. قال قتادة : وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر، وعنه : وثلاثة عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا، والله أعلم بذلك. وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف، والمراد هنا : أشيروا عليّ بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير. وقصدت بإشارتهم : استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٠