ثم أخبر تعالى بسعة علمه، فبدأ بما يخص الإنسان، ثم عم كل غائبة وعبر بالصدور، وهي محل القلوب التي لها الفكر والتعقل، كما قال :﴿وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ﴾ عن الحال فيها، وهي القلوب، وأسند الإعلان إلى ذواتهم، لأن الإعلان من أفعال الجوارح. ولما كان المضمر في الصدر هو الداعي لما يظهر على الجوارح، والسبب في إظهاره قدم الإكنان على الإعلام. وقرأ الجمهور :﴿مَا تُكِنُّ﴾، من أكن الشيء : أخفاه. وقرأ ابن محيصن، وحميد، وابن السميفع : بفتح التاء وضم الكاف، من كن الشيء : ستره، والمعنى : ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم. والظاهر عموم قوله :﴿مِنْ غَآاِبَةٍ﴾، أي ما من شيء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب عند الله ومكنون علمه. وقيل : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض. وقيل : هو يوم القيامة وأهوالها، قاله الحسن. والكتاب : اللوح المحفوظ. وقيل : أعمال العباد أثبتت ليجازى عليها. وقال صاحب الغنيان : أي حادثة غائبة، أو نازلة واقعة. وقال ابن عباس : أي ما من شيء سرّ في السموات والأرض وعلانية، فاكتفى بذكر السر عن مقبلة. وقال الزمخشري : سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية، ونظيرهما : النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالرواية في قولهم : ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء، إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة. انتهى.
ولما ذكر تعالى المبدأ والمعاد، ذكر ما يتعلق بالنبوة، وكان المعتمد الكبير في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم وهو القرآن. ومن جملة إعجازه إخباره بما تضمن من القصص، الموافق
٩٥
لما في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه أمي لم يخالط العلماء ولا اشتغل بالتعليم. وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى. قص فيه أكثر ما اختلفوا فيه على وجهه، وبينه لهم، ولو أنصفوا وأسلموا. ومما اختلفوا فيه أمر المسيح، تحزبوا فيه، فمن قائل هو الله، ومن قائل ابن الله، ومن قائل ثالث ثلاثة، ومن قائل هو نبي كغيره من الأنبياء، وقد عقدوا لهم اجتماعات، وتباينوا في العقائد، وتناكروا في أشياء حتى لعن بعضهم بعضاً، والظاهر عموم المؤمنين. وقيل لمن آمن من بني إسرائيل والقضاء والحكم، وإن ظهر أنهما مترادفان، فقيل : المراد به هنا العدل، أي بعدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، وقيل : المراد بحكمته والحكم. قيل : ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه، بكسر الحاء وفتح الكاف، جمع حكمة، وهو جناح بن جيش. ولما كان القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به، والعلم بما يحكم به، جاءت هاتان الصفتان عقبه، وهو العزة : أي الغلبة والقدرة والعلم، ثم أمره تعالى بالتوكل عليه، وأخبره أنه على الحق الواضح الذي لا شك فيه، وهو كالتعليل للتوكل، وفيه دليل على أن من كان على الحق يحق له أن يثق بالله، فإنه ينصره ولا يخذله.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٨٠
ولما كان القرآن وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم، أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى، وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار، لأنهم إذا تلي عليهم لا تعيه آذانهم، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى. وقرأ الجمهور :﴿وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ هنا، وفي الروم بضم التاء وكسر الميم، الصم بالرفع، ولما كان الميت لا يمكن أن يسمع، لم يذكر له متعلق، بل نفي الإسماع، أي لا يقع منك إسماع لهم ألبتة لعدم القابلية. وأما الأصم فقد يكون في وقت يمكن إسماعه وسماعه، فأتى بمتعلق الفعل وهو الدعاء. وإذا معمولة لتسمع، وقيد نفي الإسماع أو السماع بهذا الطرف وما بعده على سبيل التأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي مدبراً، كان أبعد عن إدراك صوته.
شبههم أولاً بالموتى، ثم بالصم في حالة، ثم بالعمي، فقال :﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ﴾ حيث يضلون الطريق، فلا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويحولهم هداة بصراء إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور : بهادي العمى، اسم فاعل مضاف ؛ ويحيى بن الحارث، وأبو حيوة : بهادٍ، منوناً العمي ؛ والأعمش، وطلحة، وابن وثاب، وابن يعمر، وحمزة : تهدي، مضارع هدي، العمي بالنصب ؛ وابن مسعود : وما أنت تهتدي، بزيادة أن بعد ما، ويهتدي مضارع اهتدى، والعمي بالرفع، والمعنى : ليس في وسعك إدخال الهدى في قلب من عمي عن الحق ولم ينظر إليه بعين قلبه. ﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ﴾، وهم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته. ﴿فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ : منقادون للحق. وقال الزمخشري : مسلمون مخلصون، من قوله :﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ﴾، بمعنى جعله سالماً لله خالصاً. انتهى.


الصفحة التالية
Icon