وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة، ولم يعتد باللام الساكنة، لأن الساكن حاجز غير حصين. وجواب القسم :﴿إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر، كما أن جواب القسم السابق يشملهما، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول صلى الله عليه وسلّم وكتابه وكافراً. وقال ابن زيد : خطاب للكفرة، فيقولون : ساحر شاعر كاهن مجنون، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً، إنما يكون متناقضاً مختلفاً. وقيل : اختلافهم في الحشر، منهم من ينفيه، ومنهم من يشك فيه. وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٣١
﴿يُؤْفَكُ﴾ : أي يصرف عنه، أي عن القرآن والرسول، قاله الحسن وقتادة. ﴿مَنْ أُفِكَ﴾ : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل : من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون، أو للذي أقسم بالسماء
١٣٤
على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك ومنهم جاحد. ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك. وقيل : المأفوك عنه محذوف، وعن هنا للسبب، والضمير عائد على ﴿قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة، حكاه الزهراوي والزمخشري، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على ﴿قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنياً للفاعل، أي من أفك الناس عنه، وهم قريش. وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً.
﴿قُتِلَ الْخَراَّصُونَ﴾ : أي قتل الله الخراصين، وهم المقدرون ما لا يصح. ﴿فِى غَمْرَةٍ﴾ : في جهل يغمرهم، ﴿سَاهُونَ﴾ : غافلون عن ما أمروا به. ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ : أي متى وقت الجزاء ؟ سؤال تكذيب واستهزاء، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله :﴿أَيَّانَ مُرْسَـاهَا﴾، ﴿مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فيكون الظرف محلاً للمصدر، وانتصب يومهم بمضمر تقديره : هو كائن، أي الجزاء، قاله الزجاج، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو يومهم، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن، وهي الجملة الإسمية. ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني. ﴿يَوْمَ هُمْ﴾ بالرفع، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى :﴿يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ﴾. وقال بعض النحاة : يومهم بدل من ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء. ولو حكى لفظ قولهم، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون. ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ : أي يقال لهم ذوقوا. ﴿هَـاذَا الَّذِى﴾ : مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم، أي ذوقوا هذا العذاب. انتهى، وفيه بعد، والاستقلال خير من البدل. ومعنى تفتنون : تعذبون في النار.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٣١
ولما ذكر حال الكفار، ذكر حال المؤمنين، وانتصب آخذين على الحال، أي قابليه راضين به، وذلك في الجنة. وقال ابن عباس :﴿ءَاخِذِينَ﴾ : أي في دنياهم، ﴿مَآ ءَاتَـاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ من أوامره ونواهيه وشرعه، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة. والظاهر أن ﴿قَلِيلا﴾ ظرف، وهو في الأصل صفة، أي كانوا في قليل من الليل. وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، وما زائدة في كلا الإعرابين. وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير. وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظاً. وقال مطرف، ومجاهد، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها. وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً. وقال الضحاك :﴿كَانُوا قَلِيلا﴾، أي في عددهم، وثم خبر كان، ثم ابتدأ ﴿مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾، فما نافية، وقليلاً وقف حسن، وهذا القول فيه تفكيك للكلام، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله، وذلك لا يجوز عند البصريين، ولو كان ظرفاً أو مجروراً. وقد أجاز ذلك بعضهم، وجاء في الشعر قوله :