عليكم سلام. قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى، إذ سلاماً دعاء. وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أمري سلام، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع. وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ؛ وقولاً معناه سلاماً، وهذا قول مجاهد. وقرأ ابن وثاب، والنخعي، وابن جبير، وطلحة : قال سلم، بكسر السين وإسكان اللام، والمعنى : نحن سلم، أو أنتم سلم، وقرئا مرفوعين. وقرىء : سلاماً قالوا سلماً، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه. ﴿قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان. وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم. وقيل : كان هذا سؤالهم، كأنه قال : أنتم قوم منكرون، فعرّفوني من أنتم. وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون. وقال ذلك مع نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٣١
﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ : أي مضى أثناء حديثه، مخفياً مضيه مستعجلاً ؛ ﴿فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة. وكونه عطف، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه. وقال في سورة هود :﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾، وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم. وقال قتادة : كان غالب ماله البقر، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل. وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها.
﴿فَقَرَّبَهُا إِلَيْهِمْ﴾ : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل، وفيه العرض على الأكل ؛ فإن في ذلك تأنيساً للأكل، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل، وهذا موجود في طباع بعض الناس. حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله. وقيل : الهمزة في ألا للإنكار، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال :﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾. وفي الحديث :"إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن، قالوا : وما هو ؟ قال : أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً".
﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل، أوجس منهم خيفة، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه، وللطعام حرمة وذمام، والامتناع منه وحشة. فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه، فقالوا لا تخف، وعرفوه أنهم ملائكة. وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه، أو بظهور أمارته في الوجه، فاستدلوا بذلك على الباطن. وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل، فقام يدرج حتى لحق بأمه. ﴿بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ : أي سيكون عليماً، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء. وعن الحسن : عليم نبي ؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة. وقال مجاهد : هو إسماعيل. وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس، وكانت البشارة بذكر، لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٣١
﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُه فِى صَرَّةٍ﴾ : أي إلى بيتها، وكانت في زاوية تنظر
١٣٩
إليهم وتسمع كلامهم. وقيل :﴿فَأَقْبَلَتِ﴾، أي شرعت في الصياح. قيل : وجدت حرارة الدم، فلطمت وجهها من الحياء. والصرة، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة. قال الشاعر :
فألحقنا بالهاديات ودونهحواجرها في صرة لم تزيل


الصفحة التالية
Icon