﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْاًا إِلا مِنا بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَئاِكَةَ تَسْمِيَةَ الانثَى * وَمَا لَهُم بِهِا مِنْ عِلْمٍا إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّا وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْاًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا * ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِا وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى * وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَا اُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَئاِرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَا إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِا هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَإِذْ﴾.
﴿وَكَم﴾ : هي خبرية، ومعناها هنا : التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر ﴿لا تُغْنِى﴾ ؛ والغنى : جلب النفع ودفع الضر، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى. وكم لفظها مفرد، ومعناها جمع. وقرأ الجمهور :﴿شَفَاعَتُهُمْ﴾، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير ؛ وزيد بن علي : شفاعته، بإفراد الشفاعة والضمير ؛ وابن مقسم : شفاعاتهم، بجمعهما، وهو اختيار صاحب الكامل، أي القاسم الهذلي. وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد، لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً. فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه، أي يرضاه أهلاً للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها ؟ ﴿الْمَلَئاِكَةَ تَسْمِيَةَ الانثَى ﴾ : كونهم يقولون إنهم بنات الله، ﴿وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ﴾ : هم العرب منكر والبعث. ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْاًا﴾ : أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن، وإنما يدرك بالعلم واليقين. قيل : ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٣
﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾، موادعة منسوخة بآية السيف. ﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ : أي لم تتعلق إرادته بغيرها، فليس له فكر في سواها، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة. والذكر هنا : القرآن، أو الإيمان، أو الرسول صلى الله عليه وسلّم، أقوال. ﴿عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾ : هو سبب الأعراض، لأن من لا يصغي إلى قول، كيف يفهم معناه ؟ فأمر صلى الله عليه وسلّم بالإعراض عن من هذه حاله، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا. فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر، وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها. ﴿مَبْلَغُهُم﴾ : غايتهم ومنتهاهم من العلم، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا، كالفلاحة والصنائع، لقوله تعالى :﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾. ولما ذكر ما هم عليه، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي، وهو مجازيهما. وقال الزمخشري : وقوله :﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾ : اعتراض. انتهى، وكأنه يقول : هو اعتراض بين ﴿فَأَعْرِضْ﴾ وبين ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض. وقيل : ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله. وقال الفراء : صغر رأيهم وسفه أحلامهم، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل : ذلك إشارة إلى الظن، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن. وقوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ﴾ في معرض التسلية، إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم، وفي ذلك وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ﴾ : أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى، يتصرف فيهما بما شاء. واللام في ﴿لِيَجْزِىَ﴾ متعلقة بما دل عليه معنى الملك، أي يضل ويهدي ليجزي. وقيل : بقوله :﴿بِمَن ضَلَّ﴾، و﴿بِمَنِ اهْتَدَى ﴾، واللام للصيرورة، والمعنى : إن عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما علموا، أي بعقاب ما علموا، والحسنى : الجنة. وقيل : التقدير بالأعمال الحسنى، وحين ذكر جزاء المسيء قال : بما علموا، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن، كقوله تعالى :﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، والأحسن تأنيث الحسنى. وقرأ زيد بن علي : لنجزي ونحزي بالنون فيهما.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٣


الصفحة التالية
Icon