هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقيل : هي مما نزل يوم بدر. وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات، أولها :﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ﴾، وآخرها :﴿أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾. وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإيمان إن فعل. وكانت ليلة بدر، فسأل ربه، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان. فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر. فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإلا فقد سحر محمد أعيننا. فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر، فأعرض أبو جهل وقال :﴿سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾. وعن ابن عباس : شق القمر شقين، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية. وعنه : انشق القمر بمكة مرتين. وعنه : انفلق فلقتين، فلقة ذهبت وفلقة بقيت.
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة، قال :﴿أَزِفَتِ الازِفَةُ﴾، وقال :﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾. وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس. وحين أرى الله الناس انشقاق القمر، قال الرسول صلى الله عليه وسلّم :"اشهدوا"، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد. وقال بعضهم : سحر القمر. والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله :﴿وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ معناه : أنه ينشق يوم القيامة، ويرده من الآية قوله :﴿وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾. فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معيناً من انشقاق القمر. وقيل : سألوا آية في الجملة، فأراهم هذه الآية السماوية، وهي من أعظم الآيات، وذلك التأثير في العالم العلوي. وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر، أي اقتربت، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وخطب حذيفة بالمدائن، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها، فالمعنى : ظهر الأمر، فإن العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح، كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق. قال النابغة :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١
فلما أدبروا ولهم دويدعانا عند شق الصبح داعي
وهذه أقوال فاسدة، ولولا أن المفسرين ذكروها، لأضربت عن ذكرها صفحاً. ﴿وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا ﴾، وقرىء : وإن يروا مبنياً للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله صلى الله عليه وسلّم من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية. وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي، ويقولوا :﴿سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ : أي دائم، ومنه قول الشاعر :
١٧٣
ألا إنما الدنيا ليال وأعصروليس على شيء قويم بمستمر
لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع، قالوا ذلك. وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل، أي سحر قد أحكم، ومنه قول الشاعر :
حتى استمرت على سر مريرتهصدق العزيمة لا رياً ولا ضرعا