﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ : جملة حالية أيضاً، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج، ويقال : كالذباب. وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما. وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، لأن الفراش لا جهة له يقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي، فهما تشبيهان باعتبار وقتين، قال معناه مكي بن أبي طالب. ﴿مُّهْطِعِينَ﴾، قال أبو عبيدة : مسرعين، ومنه قوله :
بدجلة دارهم ولقد أراهمبدجلة مهطعين إلى السماع
زاد غيره : مادّي أعناقهم، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف أو طمع ونحوه. وقال قتادة : عامدين. وقال الضحاك : مقبلين. وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت. وقال ابن عباس : ناظرين. ومنه قول الشاعر :
تعبدني نمر بن سعد وقد أرىونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وقيل : خافضين ما بين أعينهم. وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء. ﴿يَوْمٌ عَسِرٌ﴾، لما يشاهدون من مخايل هوله، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه. ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ : أي قبل قريش، ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم. ومفعول كذبت محذوف، أي كذبت الرسل، فكذبوا نوحاً عليه السلام. لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً، كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل. ويجوز أن يكون المحذوف نوحاً أول مجيئه إليهم، فكذبوه تكذيباً يعقبه تكذيب. كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعه قرن مكذب. وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية، كقوله تعالى :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾، ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾. ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ : أي هو مجنون. لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون، أي يقول ما لا يقبله عاقل، وذلك مبالغة في تكذيبهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١
﴿وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُا أَنِّى مَغْلُوبٌ﴾، الظاهر أن قوله :﴿وَازْدُجِرَ﴾ من أخبار الله تعالى، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف، قاله ابن زيد وقرأ :﴿لَا ِن لَّمْ تَنتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾. قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم. وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنوناً، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته. وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة، على إضمار القول على مذهب البصريين، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين. وقرأ الجمهور : بفتحها، أي بأني مغلوب، أي غلبني قومي، فلم يسمعوا مني، ويئست من إجابتهم لي. ﴿فَانتَصِرْ﴾ : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم. وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم
١٧٦
أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشياً عليه، وقد كان يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، ومتعلق ﴿فَانتَصِرْ﴾ محذوف. وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم. وقيل : فانتصر لنفسك، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة. وللمتصوفة قول في ﴿مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ حكاه ابن عطية، يوقف عليه في كتابه.
﴿فَفَتَحْنَآ﴾ : بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم. قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم. ﴿أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ﴾ : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح، وكأن الماء جاء وفتح الباب، فجعل المقصود، وهو الماء، مقدّماً في الوجود على فتح الباب المغلق. ويجوز أن تكون الباء للحال، أي ملتبسة بماء منهمر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّداً ؛ والجمهور : مخففاً، ﴿أَبْوَابَ السَّمَآءِ﴾، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب، كما تقول : فتحت أبواب القرب، وجرت مزاريب السماء. وقال عليّ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة، وهي سرع السماء كسرع العيبة. وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء، ومثله مروي عن ابن عباس، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب، لم تغلق أربعين يوماً. قال السدي :﴿مُّنْهَمِرٍ﴾ : أي كثير. قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١
أعينيّ جودا بالدموع الهوامرعلى خير باد من معد وحاضر