بتاء الخطاب للكفار، اتباعا لما تقدم من خطابهم. وقرأوا : ستهزم الجمع، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين، خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلّم ؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين ؛ والجمهور : بالياء مبنياً للمفعول، وضم العين. وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً : بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين : أي سيهزم الله الجمع. والجمهور :﴿وَيُوَلُّونَ﴾ بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب. والدبر هنا : اسم جنس، وجاء في موضع آخر ﴿لَيُوَلُّنَّ الادْبَارَ﴾، وهو الأصل، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة. وقال الزمخشري :﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ : أي الأدبار، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا. وقرىء : الأدبار. انتهى، وليس مثل بطنكم، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن، ولا يحسن لإفراد بطنكم. وفي قوله تعالى :﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ﴾ عدة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم بهزيمة جمع قريش ؛ والجمهور : على أنها مكية، وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم مستشهداً بها. وقيل : نزلت يوم بدر.
﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التى عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال. ﴿وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ﴾ : أي أفظع وأشد، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص. ﴿وَأَمَرُّ﴾ من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس. ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ﴾ : أي في حيرة وتخبط في الدنيا. ﴿وَسُعُرٍ﴾ : أي احتراق في الآخرة، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه. وقال ابن عباس : وخسران وجنون، والسعر : الجنون، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام. ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ﴾ : يجرون ﴿فِى النَّارِ﴾، وفي قراءة عبد الله : إلى النار. ﴿عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا ﴾ : أي مقولاً لهم :﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾. وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر، بإدغام السين في السين. قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد. انتهى. والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال، ثم أدغم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١
﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب. وقرأ أبو السمال، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع. قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة. وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف، وأن ما بعده يصلح للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف، ومنه هذا الموضع، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف، وأن الخبر يقدر. فقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية. فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء. وقالت القدرية : القراءة برفع كل، وخلقناه في موضع الصفة لكل، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك. وقال الزمخشري :﴿كُلَّ شَىْءٍ﴾ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرىء : كل شيء بالرفع، والقدر والقدر هو التقدير. وقرىء : بهما، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه. انتهى. قيل : والقدر فيه وجوه : أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته. والثاني : التقدير، قال تعالى :﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾. وقال الشاعر :
وما قدّر الرحمن ما هو قادر
أي ما هو مقدور. والثالث : القدر الذي يقال مع القضاء، يقال : كان ذلك بقضاء الله وقدره، والمعنى : أن القضاء ما في العلم، والقدر ما في الإرادة، فالمعنى في الآية :﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ : أي بقدرة مع إرادة. انتهى. ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ﴾ : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر، تشبيه بأعجل ما يحس، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحي من ذلك، والمعنى : أنه إذا أراد
١٨٣
تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته. ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ﴾ : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين. ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ﴾ : أي فعلته الأمم المكذبة، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد. ومعنى ﴿فِى الزُّبُرِ﴾ : في دواوين الحفظة. ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾ من الأعمال، ومن كل ما هو كائن، ﴿مُّسْتَطَرٌ﴾ : أي مسطور في اللوح. يقال : سطرت واستطرت بمعنى. وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء مستطر. قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طرّ النبات، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه. ويجوز أن يكون من الاستطار، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً. انتهى، ووزنه على التوجيه الأول استفعل، وعلى الثاني افتعل. وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد، والهاء مفتوحة ؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها، والمراد به الجنس، إن أريد به الأنهار، أو يكون معنى ونهر : وسعة في الأرزاق والمنازل، ومنه قول قيس بن الحطيم :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١
ملكت بها كفي فأنهرت فتقهايرى قائم من دونها ما وراءها
أي : أوسعت فتقها. وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني : بضم النون والهاء، جمع نهر، كرهن ورهن، أو نهر كأسد وأسد، وهو مناسب لجمع جنات. وقيل : نهر جمع نهار، ولا ليل في الجنة، وهو بعيد. ﴿فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ : يجوز أن يكون ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، وأن يكون من قولك : رجل صدق : أي خير وجود وصلاح. وقرأ الجمهور : في مقعد، على الإفراد، يراد به اسم الجنس ؛ وعثمان البتي : في مقاعد على الجمع ؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى، والله تعالى أعلم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٧١