ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله : يوم الجمعة، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها، ولو كانت شرطاً، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس، لزمت الفاء، إلا إن حذفت في شعر، إذ ورد ذلك، فنقول : إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته. ولا يجوز لست بغير فاء، إلا إن اضطر إلى ذلك. وأما تقديره : إذا وقعت كان كيت وكيت، فيدل على أن إذا عنده شرطية، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها. وأما قوله : بإضمار اذكر، فإنه سلبها الظرفية، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٠
و﴿كَاذِبَةٌ﴾ : ظاهره أنه اسم فاعل من كذب، وهو صفة لمحذوف، فقدره الزمخشري : نفس كاذبة، أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، لقوله تعالى :﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾، ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ﴾ ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾، واللام مثلها في قوله :﴿يَقُولُ يَـالَيْتَنِا قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى﴾، إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكذبي، كما لها اليوم نفوس كثيرة يقلن لها : لم تكذبي، أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم، إذا شجعته على مباشرته، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه، فتعرض له ولا تبال على معنى : أنها وقعة لا تطاق بشدة وفظاعة، وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور، وتزين له احتمالها وإطاقتها، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ ؟ والفراش مثل في الضعف. انتهى، وهو تكثير وإسهاب. وقدره ابن عطية حال كاذبة، قال : ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما كاذبة، أي مكذوب فيما أخبر به عنها، فسماها كاذبة لهذا، كما تقول : هذه قصة كاذبة، أي مكذوب فيها. والثاني : حال كاذبة، أي لا يمضي وقوعها، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب. وقال قتادة والحسن المعنى : ليس لها تكذيب ولا رد ولا منثوية، فكاذبة على هذا مصدر، كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين. والجملة من قوله :﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة، إلا إن اعتقد أنها جواب لإذا، أو منصوبة باذكر، فلا يكون ابتداء كلام. وقال ابن عطية : في موضع الحال، والذي يظهر لي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه.
وقرأ الجمهور :﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ برفعهما، على تقدير هي ؛ وزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني
٢٠٣
واليزيدي في اختياره بنصبهما. قال ابن خالوية : قال الكسائي : لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به، ونصبهما على الحال. قال ابن عطية : بعد الحال التي هي ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾، ولك أن تتابع الأحوال، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ. والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما يهتم به. انتهى. وهذا الذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي. قال في كتاب اللوامح : وذو الحال الواقعة والعامل وقعت، ويجوز أن يكون ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ حال أخرى من الواقعة بتقدير : إذا وقعت صادقة الواقعة، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال، وجازت أحوال مختلفة عن واحد، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد. وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً، كان العامل في ﴿إِذَا وَقَعَتِ﴾ محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه. انتهى. وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر في النحو، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٠
قال الجمهور : القيامة تنفظر له السماء والأرض والجبال، وتنهد له هذه البنية برفع طائفة من الأجرام وبخفض أخرى، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب. وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى، وترفعها لتسمع الأقصى. وقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة : القيامة تخفض أقواماً إلى النار، وترفع أقواماً إلى الجنة ؛ وأخذ الزمخشري هذه الأقوال على عادته وكساها بعض ألفاظ رائعة، فقال : ترفع أقواماً وتضع آخرين، أما وصفاً لها بالشدة، لأن الواقعات العظام كذلك يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ؛ وأما أن الأشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يحطون إلى الدرجات ؛ وأما أنها تزلزل الأشياء عن مقارها لتخفض بعضاً وترفع بعضاً، حيث تسقط السماء كسفاً، وتنتثر الكواكب وتنكدر، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب. انتهى.


الصفحة التالية
Icon