ولا يتعين أن يكون ﴿تَنزِيلٌ﴾ صفة، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فيحسن إذ ذاك أن يكون ﴿لا يَمَسُّهُا﴾ نهياً. وذكروا هنا حكم مس المصحف، وذلك مذكور في الفقه، وليس في الآية دليل على منع ذلك. وقرأ الجمهور :﴿الْمُطَهَّرُونَ﴾ اسم مفعول من طهر مشدّداً ؛ وعيسى : كذلك مخففاً من أطهر، ورويت عن نافع وأبي عمرو. وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر، أي المطهرين أنفسهم ؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما، أصله المتطهرون، فأدغم التاء في الطاء، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف.
٢١٤
وقرىء : المتطهرون. وقرىء : تنزيلاً بالنصب، أي نزل تنزيلاً، والإشارة في :﴿أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ﴾ للقرآن، و﴿أَنتُم﴾ : خطاب للكفار، ﴿مُّدْهِنُونَ﴾، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل. وقال أيضاً : مكذبون. ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به، أي تضعون مكان الشكر التكذيب، ومن هذا المعنى قول الراجز :
مكان شكر القوم عند المننكي الصحيحات وفقء الأعين
وقرأ عليّ وابن عباس : وتجعلون شكركم، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد. وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً، بمعنى : ما شكره. قيل : نزلت في الأنواء، ونسبة السقيا إليها، والرزق : المطر، فالمعنى : ما يرزقكم الله من الغيب. وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر، هذا بنوء كذا وكذا، وهذا بنوء الأسد، وهذا بنوء الجوزاء، وغير ذلك. وقرأ الجمهور :﴿تُكَذِّبُونَ﴾ من التكذيب ؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله، أي القرآن أو المطر، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم. ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء، وفي المطر من الأنواء.
﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَاِذٍ تَنظُرُونَ﴾، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، فلولا الثانية مكررة للتوكيد، والضمير في ترجعونها للنفس. وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء. ﴿وَأَنتُمْ﴾ : إشارة إلى جميع البشر، ﴿حِينَاِذٍ﴾ : حين إذ بلغت الحلقوم، ﴿تَنظُرُونَ﴾ : أي إلى النازع في الموت. وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾ بالعلم والقدرة، ﴿وَلَاكِن لا تُبْصِرُونَ﴾ : من البصيرة بالقلب، أو ﴿أَقْرَبُ﴾ : أي ملائكتنا ورسلنا، ﴿وَلَاكِن لا تُبْصِرُونَ﴾ : من البصر بالعين. ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص. والمدين : المملوك. قال الأخطل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٧
ربت ورباني في حجرها ابن مدينة
قيل : ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة، وآخر البيت : تراه على مسحانة يتوكل
والمعنى : فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين. ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء، وأن ما نزل من المطر هو بنوء، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له. وقال ابن عطية : قوله ﴿تَرْجِعُونَهَآ﴾ سد مسد جوابها، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات، وإذا من قوله :﴿فَلَوْلا إِذَا﴾، وإن المتكررة، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً. انتهى. وتقول :﴿إِذَا﴾ ليست شرطية، فتسد ﴿تَرْجِعُونَهَآ﴾ مسد جوابها، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني علي، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم، وهم لا يقدرون على رجوعها، إذ مربوبيتهم موجودة، فهم مقهورون لا قدرة لهم. ﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ﴾ : أي المتوفى، ﴿مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ : وهم السابقون. وقرأ الجمهور ؛ ﴿فَرَوْحٌ﴾، بفتح الراء ؛ وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ونوح القارىء، والضحاك، والأشهب، وشعيب بن الحبحاب، وسليمان التيمي، والربيع بن خيثم، ومحمد بن عليّ، وأبو عمران الجوني، والكلبي، وفياض، وعبيد، وعبد الوارث عن أبي عمرو، ويعقوب بن صيان، وزيد، ورويس عنه : بضمها. قال الحسن : الروح : الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقال أيضاً : روحه تخرج في ريحان. وقيل : الروح : البقاء، أي فهذان له معاً، وهو الخلود مع الرزق. وقال مجاهد : الريحان : الرزق. وقال الضحاك : الاستراحة. وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً :
٢١٥
الريحان، هذا الشجر المعروف في الدنيا، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة. وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور. وقال صلى الله عليه وسلّم، في الحسن والحسين، رضي الله تعالى عنهما :"هما ريحانتاي من الدنيا".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٧
وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس، ﴿فَرَوْحٌ﴾ : فسلام، فنزل الفاء جواب أما تقدم. أما وهي في تقدير الشرط، وإن كان من المقربين، وإن كان من أصحاب اليمين، وإن كان من المكذبين الضالين شرط ؛ وإذا اجتمع شرطان، كان الجواب للسابق منهما. وجواب الثاني محذوف، ولذلك كان فعل الشرط ماضي للفظ، أو مصحوباً بلم، وأغنى عنه جواب أما، هذا مذهب سيبويه. وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن، وجواب أما محذوف، وله قول موافق لمذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا، والشرط معاً، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل، والخطاب في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلّم، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب. ثم لكل معتبر من أمّته صلى الله عليه وسلّم قبل لمن يخاطبه :﴿مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾. فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين. وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين. وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي يسلمون عليك، كقوله :﴿إِلا قِيلا سَلَامًا سَلَامًا﴾. والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة، أصحاب الشمال. وقرأ الجمهور : وتصلية رفعاً، عطفاً على ﴿فَنُزُلٌ﴾ ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بحر عطفاً على ﴿مِّنْ حَمِيمٍ﴾. ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم، أكد ذلك بقوله :﴿إِنَّ هَاذَا﴾ : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة ﴿لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾، فقيل : هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب، بمعنى أنها نهاية في ذلك، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة. وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين، أي الثابت المتيقن.
ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات. ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه، والإقبال على عبادة ربه، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء. ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه، كقوله :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾، ويسبحوه ؛ وتارة بحرف الجر، كقوله :﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم، ويجوز أن يكون صفة لربك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٠٧


الصفحة التالية
Icon