ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب. قيل : وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة، ثم قال :﴿وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان ؟ ودواعي ذلك موجودة، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل. وموجب ذلك من السمع في قوله :﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾ لهذا الوصف الجليل. وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان، فدواعي الإيمان موجودة، وأسبابه حاصلة، فلا مانع منه، ولا عذر في تركه. و﴿لا تُؤْمِنُونَ﴾ حال، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه ؟ ﴿وَالرَّسُولُ﴾ : الواو واو الحال، فالجملة بعده حال، وقد أخذ حال ثالثة، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام. وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها.
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ : شرط وجوابه محذوف، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا، فهذا هو الموجب لإيمانكم، أو إن كنتم ممن يؤمن، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق. وقال الطبري : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن. وقرأ الجمهور :﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ مبنياً للفاعل، ﴿مِيثَـاقَكُمْ﴾ بالنصب ؛ وأبو عمرو : مبنياً للمفعول، ميثاقكم رفعاً. وقال ابن عطية : في قوله :﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ وإنما المعنى أن قوله :﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ يقتضي أن يقدر بأثره، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة. ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ : أي إن دمتم على ما بدأتم به.
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلّم ما دعا به إلى الإيمان، وذلك الآيات البينات المعجزات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أي الله تعالى، إذ هو المخبر عنه، أو الرسول صلى الله عليه وسلّم، لأنه أقرب. وقرىء في السبعة :﴿يُنَزِّلُ﴾ مضارعاً، فبعض ثقل وبعض خفف. وقراءة الحسن : بالوجهين ؛ وزيد بن علي والأعم : أنزل ماضياً، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيساً لهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك، وهو أنهم يموتون فيخلفونه. ونبه على هذا الموجب بقوله :﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق. وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا، فموضعه جر أو نصب على الخلاف، وأن ليست زائدة، بل مصدرية. وقال
٢١٨
الأخفش : في قوله :﴿مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا﴾، إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن، وتقديره : وما لكم لا تنفقون، وقد رد مذهبه في كتب النحو.
﴿لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ﴾، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه، وكذا من تابعه في السبق في ذلك، ولذلك قال :﴿أُوالَئاِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾. وقيل : نزلت بسبب أن ناساً من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق. وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين. وقرأ الجمهور :﴿مِن قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ ؛ وزيد بن علي، قيل : بغير من. والفتح مكة، وهو المشهور، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد. وقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبة، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحاً، ورفعه أبو سعيد إلى النبي صلى الله عليه وسلّم : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة. والظاهر أن ﴿مِنَ﴾ فاعل ﴿لا يَسْتَوِى﴾، وحذف مقابله، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوضوح المعنى.