قوله عز وجل :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَا فَمِنْهُم مُّهْتَدٍا وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَـاهُ الانجِيلَا وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً﴾.
لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم، عليهما السلام، تشريفاً لهما بالذكر. أما نوح، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض ؛ وأما إبراهيم، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام، وهو معظم في كل الشرائع. ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما، وذلك النبوة، وهي التي بها هدي الناس من الضلال ؛ ﴿وَالْكِتَـابَ﴾، وهي الكتب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم من ذرية نوح، فصدق أنها في ذريتهما. وفي مصحف عبد الله : والنبية مكتوبة
٢٢٧
بالياء عوض الواو. وقال ابن عباس :﴿وَالْكِتَـابَ﴾ : الخط بالقلم، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية. وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم. ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك، انقسموا إلى مهتد وفاسق، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦
﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا﴾ : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم، ﴿عَلَى ءَاثَـارِهِم﴾ : أي آثار الذرية، ﴿بِرُسُلِنَا﴾ : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية، ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى﴾ : ذكره تشريفاً له، ولانتشار أمته، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه. وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران. قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له. انتهى، وهي لفظة أعجمية، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب. وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي ؛ وأما الإنجيل فأعجمي. وقرىء : رآفة على وزن فعالة، ﴿وَجَعَلْنَا﴾ : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا، كقوله :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ﴾، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، فيكون ﴿فِى قُلُوبِ﴾ : في موضع المفعول الثاني لجعلنا. ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ معطوف على ما قبله، فهي داخلة في الجمل. ﴿ابتَدَعُوهَا﴾ : جملة في موضع الصفة لرهبانية، وخصت الرهبانية بالابتداع، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب. قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله، والرهبانية هم ابتدعوها ؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع. وجعل أبو علي الفارسي ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ مقتطعة من العطف على ما قبلها من ﴿رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾، فانتصب عنده ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ على إضمار فعل يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها. واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها. انتهى، وهذا إعراب المعتزلة، وكان أبو عليّ معتزلياً. وهم يقولون : ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد، فالرأفة والرحمة من خلق الله، والرهبانية من ابتداع الإنسان، فهي مخلوقة له. وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله :﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٦


الصفحة التالية
Icon