﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾ : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء، بعدما فرغ من بيعة الرجال، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط. وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن : كنت في النسوة المبايعات، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك، فقال لي عليه الصلاة والسلام :"إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن". وكانت هند بنت عتبة في النساء، فقرأ عليهن الآية. فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئاً، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ تعني أن هذا بين لزومه. فلما وقف على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان، لا أدري أيحل لي ذلك ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما عبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفها، فقال لها :"وإنك لهند بنت عتبة"، قالت : نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال :﴿وَلا يَزْنِينَ﴾، فقالت : أوتزني الحرة ؟ قال :﴿وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال :﴿وَلا يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ﴾، فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال :﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ﴾، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. ومعنى قول هند : أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر. وقرأعليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشدداً، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة، وكانت العرب تفعل ذلك. والبهتان، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين. وروى الضحاك : البهتان : العضة، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته، أو ألحقت بها ولداً لم تلده. وقيل : البهتان : السحر.
٢٥٨
وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن ؛ فروجهن. وقيل : بين أيديهن قبله أو جسة، وأرجلهن الجماع. ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها. وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم، فقيل لهم : لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد، لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم. وقال ابن عباس : كفار قريش، لأن كل كافر عليه غضب من الله. وقيل : اليهود والنصارى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٥١
﴿قَدْ يَاِسُوا مِنَ الاخِرَةِ﴾، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها. والظاهر أن من في ﴿مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ لابتداء الغاية، أي لقاء أصحاب القبور. فمن الثانية كالأولى من الآخرة. فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم. وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر. انتهى. والكفار على هذا كفار مكة، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به، لن يبعث أبداً، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن. وقيل : من لبيان الجنس، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور، والمأيوس منه محذوف، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله، لأنه إذا كان حياً لم يقبر، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله، إذ هو متوقع إيمانه، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد. وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر. انتهى. وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف. وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد. والجمهور : على الجمع. ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك مولاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٥١


الصفحة التالية
Icon