ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه :﴿لِمَ تُؤْذُونَنِى﴾، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه، ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ﴾ : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع، والمضارع هنا معناه المضي، أي وقد علمتم، كقوله :﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾، أي قد علم، ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ﴾. وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا ﴾ عن الحق، ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾. قال الزمخشري : بأن منع ألطافه، ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ﴾ : لا يلطف بهم، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره : أسند الزيغ إليهم، ثم قال :﴿أَزَاغَ اللَّهُ﴾ كقوله تعالى :﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب، بخلاف قوله :﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٥٩
ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام. وهناك قال :﴿عَلَيْهِ قَوْمٌ﴾ لأنه من بني إسرائيل، وهنا قال عيسى :﴿مَعِىَ بَنِى إِسْرَا ءِيلَ﴾ من حيث لم يكن له فيهم أب، وإن كانت أمه منهم. ومصدقاً ومبشراً : حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية، ولمن تأخر من النبي المذكور، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته. وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة ؟ قال :"نعم، أمة أحمد صلى الله عليه وسلّم، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل". وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم، أو من أحمد أفعل التفضيل، وقال حسان :
صلى الإله ومن يحف بعرشهوالطيبون على المبارك أحمد
وقال القشيري : بشر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلّم، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام. والظاهر أن الضمير المرفوع في ﴿جَآءَهُم﴾ يعود على عيسى لأنه المحدث عنه. وقيل : يعود على أحمد. لما فرغ من كلام عيسى، تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا :﴿هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾. وقرأ الجمهور : سحر، أي ما جاء به من البينات. وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب : ساحر، أي هذا الحال ساحر. وقرأ الجمهور : يدعى مبنياً للمفعول ؛ وطلحة : يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى. وقال الزمخشري : أيضاً، وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى بشد الدال، بمعنى يدعى دعاه وادعاه، نحو لمسه والتمسه.
﴿يُرِيدُونَ﴾ الآية : تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة. وقال الزمخشري : أصله :﴿يُرِيدُونَ أَن﴾، كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لأكرمك، كما زيدت اللام في : لا أبا لك، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أبا لك. انتهى. وقال نحوه ابن عطية، قال : واللام في قوله : لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفؤا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم، تقول : لزيد ضربت، ولرؤيتك قصرت. انتهى. وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر، بل الأكثر : زيداً ضربت، من : لزيد ضربت. وأما قولهما إن اللام للتأكيد، وإن التقدير أن يطفؤا، فالإطفاء
٢٦٢
مفعول ﴿إِن يُرِيدُونَ﴾، فليس بمذهب سيبويه والجمهور. وقال ابن عباس وابن زيد : هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول. وقال السدي : يريدون دفع الإسلام بالكلام. وقال الضحاك : هلاك الرسول صلى الله عليه وسلّم بالأراجيف. وقال ابن بحر : إبطال حجج الله بتكذيبهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٥٩


الصفحة التالية
Icon