﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ : أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه. ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ : هم اليهود المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلّم، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهي ناطقة بنبوته. وقرأ الجمهور : حملوا مشدداً مبنياً للمفعول ؛ ويحيى بن يعمرو وزيد بن عليّ : مخففاً مبنياً للفاعل. شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتباً، فهو لا يدري ما عليه، أكتب هي أم صخر وغير ذلك ؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها. وقال الشاعر في نحو ذلك :
زوامل للأشعار لا علم عندهمبجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدابأوساقه أو راح ما في الغرائر
وقرأ عبد الله : حمار منكراً ؛ والمأمون بن هارون : يحمل بشد الميم مبنياً للمفعول. والجمهور : الحمار معرفاً، ويحمل مخففاً مبنياً للفاعل، ويحمل في موضع نصب على الحال. قال الزمخشري : أو الجر على الوصف، لأن الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى.
وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل، وحملوا عليه ﴿وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾، وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال، لا في موضع الصفة. ووصفه بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت
٢٦٦
إلا بالمعرفة، والجمل نكرات. ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ﴾. قال الزمخشري : بئس مثلاً مثل القوم. انتهى. فخرجه على أن يكون التمييز محذوفاً، وفي بئس ضمير يفسره مثلاً الذي ادعى حذفه. وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه. وقال ابن عطية : والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز. والظاهر أن ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾ فاعل ﴿بِئْسَ﴾، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله، وهم اليهود، أو يكون ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا ﴾ صفة للقوم، والمخصوص بالدم محذوف، التقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثلهم، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٦٤
روي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتموه أطعناكم، وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا لهم : نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير بن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت :﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا ﴾، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وإن كان قولكم حقاً فتمنوا أن تنقلوا سريعاً إلى دار كرامته المعدة لأوليائه، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة. وقرأ الجمهور :﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾، بضم الواو ؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع : بكسرها ؛ وعن ابن السميفع أيضاً : فتحها. وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو، وهذا كقراءة من قرأ : تلؤون بالهمز بدل الواو. قال الزمخشري : ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فأتى مرة بلفظ التأكيد :﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ﴾، ومرة بغير لفظه :﴿وَلا يَتَمَنَّونَهُا﴾، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه، وأما قوله : إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.
وقرأ الجمهور :﴿فَإِنَّهُ﴾، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته، فكان إن باشرت الذي، وفي الذي معنى الشرط، فدخلت الفاء في الخبر، وقد منع هذا قوم، منهم الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي : إنه بغير فاء، وخرجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر إن هو الذي، كأنه قال : قل إن الموت هو الذي تفرون منه. انتهى. ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله : أنه ملاقيكم، فالجملة خبر إن، ويحتمل أن يكون إنه توكيداً، لأن الموت وملاقيكم خبر إن. لما طال الكلام، أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن.


الصفحة التالية
Icon