ولما صدق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول، مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه، وقال له بعضهم : امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوّى رأسه إنكاراً لهذا الرأي، وقال لهم : لقد أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر، ورسول الله يطلب عاملان، أحدهما ﴿يَسْتَغْفِرِ﴾، والآخر ﴿تَعَالَوْا ﴾ ؛ فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة، ولو أعمل الأول لكان التركيب : تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب، بخلاف عنهما :﴿لَوَّوْا ﴾، بفتح الواو ؛ وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى وأبو رجاء والأعرج وباقي السبعة : بشدها للتكثير. وليّ رءوسهم، على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم، هو استتابتهم من النفاق، فيستغفر لهم، إذ كان استغفاره متسبباً عن استتابتهم، فيتوبون وهم يصدون عن المجيء واستغفار الرسول. وقرىء : يصدون ويصدون، جملة حالية، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم، ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ : جملة حالية أيضاً.
ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة، سوى بين استغفاره لهم وعدمه. وحكى مكي أنه عليه الصلاة والسلام كان استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام. وقال ابن عباس : نزلت هذه بعد قوله تعالى في براءة أن تستغفر لهم سبعين مرة، وقوله عليه الصلاة والسلام :"سوف أستغفر لهم زيادة على السبعين"، فنزلت هذه الآية، فلم يبق للاستغفار وجه. وقرأ الجمهور :﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾ بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام، وطرح ألف الوصل ؛ وأبو جعفر : بمدة على الهمزة. قيل : هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله :﴿إِلا مَا حَرَّمَ﴾، لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، ولا يحتاج ذلك في الفعل، لأن همزة الوصل فيه مكسورة. وعن أبي جعفر أيضاً : ضم ميم عليهم، إذ أصلها الضم، ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري، عن أبي عمرو : كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة، فتسقط في القراءتين، واللفظ خبر، والمعنى على الاستفهام، والمراد التسوية، وجاز حذف الهمزة لدلالة أم عليها، كما دلت على حذفها في قوله :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٦٩
بسبع رمينا الجمر أم بثمان
يريد : أبسبع. وقال الزمخشري : وقرأ أبو جعفر : آستغفرت، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان، لا قلب همزة الوصل ألفاً كما في : آلسحر، وآلله. وقال ابن عطية : وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : آستغفرت، بمدة على الهمزة، وهي ألف التسوية. وقرأ
٢٧٣
أيضاً : بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ : إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه، سفه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى. ﴿لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ : إن كان الله تعالى حكى نص كلامهم، فقولهم :﴿عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ هو على سبيل الهزء، كقولهم :﴿وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾، أو لكونه جرى عندهم مجرى اللعب، أي هو معروف بإطلاق هذا اللفظ عليه، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر. فالظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه تعالى عبر بذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلّم، إكراماً له وإجلالاً. وقرأ الجمهور :﴿يَنفَضُّوا ﴾ : أي يتفرقوا عن الرسول ؛ والفضل بن عيسى : ينفضوا، من انفض القوم : فني طعامهم، فنفض الرجل وعاءه، والفعل من باب ما يعدى بغير الهمزة، وبالهمزة لا يتعدى. قال الزمخشري : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم. وقرأ الجمهور :﴿لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ﴾ : فالأعز فاعل، والأذل مفعول، وهو من كلام ابن سلول، كما تقدم. ويعني بالأعز : نفسه وأصحابه، وبالأذل : المؤمنين. والحسن وابن أبي عبلة والسبي في اختياره : لنخرجن بالنون، ونصب الأعز والأذل، فالأعز مفعول، والأذل حال. وقرأ الحسن، فيما ذكر أبو عمر والداني : لنخرجن، بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب الأعز على الاختصاص، كما قال : نحن العرب أقرى الناس للضيف ؛ ونصب الأذل على الحال، وحكى هذه القراءة أبو حاتم. وحكى الكسائي والفراء أن قوماً قرأوا : ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء، فالفاعل الأعز، ونصب الأذل على الحال. وقرىء : مبنياً للمفعول وبالياء، الأعز مرفوع به، الأذل نصباً على الحال. ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين، فما كان منها بأل فعلى زيادتها، لا أنها معرفة.