ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم، ثم ما خص منه، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها، وهذا كله في معنى الوعيد، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب. وقرأ الجمهور :﴿مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ بتاء الخطاب ؛ وعبيد عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم : بالياء.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ : الخطاب لقريش، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها، وقد سمعت قريش أخبارهم، ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ : أي مكروههم وما يسوؤهم منه. ﴿ذَالِكَ﴾ : أي الوبال، ﴿بِأَنَّهُ﴾ : أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولاً، كما استبعدت قريش، فقالوا على سبيل الاستغراب :﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾، وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا ؟ وارتفع ﴿أَبَشَرٌ﴾ عند الجوفي وابن عطية على الابتداء، والخبر ﴿يَهْدُونَنَا﴾، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل، فالمسألة من باب الاشتغال. ﴿فَكَفَرُوا ﴾ : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها، بل عقبوا مجيئها بالكفر، ﴿وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ : استفعل بمعنى الفعل المجرد، وغناه تعالى أزلي، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم، وليست استفعل هنا للطلب. وقال الزمخشري : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. والزعم : تقدم تفسيره، والذين كفروا : أهل مكة، وبلى : إثبات لما بعد حرف النفي، ﴿وَذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ : أي لا يصرفه عنه صارف.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٧٥
﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ : وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، ﴿وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا ﴾ : هو
٢٧٧
القرآن، وانتصب ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾ بقوله :﴿لَتُنَبَّؤُنَّ﴾، أو بخبير، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء، أو باذكر مضمرة، قاله الزمخشري ؛ والأول عن النحاس، والثاني عن الحوفي. وقرأ الجمهور : يجمعكم بالياء وضم العين ؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم ؛ وسلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي : بالنون. ﴿لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ : يجمع فيه الأولون والآخرون، وذلك أن كل واحد يبعث طامعاً في الخلاص ورفع المنزلة. ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ : مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً، لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، وفي الحديث :"ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة"، وذلك معنى يوم التغابن. وعن مجاهد وغيره : إذا وقع الجزاء، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار. وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه : نكفر وندخله بالنون فيهما ؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة : بالياء فيهما.
قوله عز وجل :﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لا إله إِلا هُوَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَـادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُم وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌا وَاللَّهُ عِندَهُا أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لانفُسِكُم وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِا فَأُوالَئاِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٧٥