﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَا إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ﴾ ؟ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين. وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله :﴿عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا﴾، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى. ولم يأت التركيب بالضمير عنهما، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله :﴿صَـالِحَيْنِ﴾، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾، وفي قول يوسف عليه السلام :﴿وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾، وقول سليمان عليه الصلاة والسلام :﴿وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ﴾. ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام : هو مجنون، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف، قاله ابن عباس. وقال : لم تزن امرأة نبي قط، ولا ابتلي في نسائه بالزنا. قال في التحرير : وهذا إجماع من المفسرين، وفي كتاب ابن عطية. وقال الحسن في كتاب النقاش : فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره. وقال الزمخشري : ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد، بخلاف الكفر، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً. وقال الضحاك : خانتاهما بالنميمة، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين، وقيل : خانتاهما بنفاقهما. قال مقاتل : اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة. ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا﴾ بياء الغيبة، والألف ضمير نوح ولوط : أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة. ﴿وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ﴾ : أي وقت موتهما، أو يوم القيامة ؛ ﴿مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ : الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط. وقرأ مبشر بن عبيد : تغنيا بالتاء، والألف ضمير المرأتين، ومعنى ﴿عَنْهُمَا﴾ : عن أنفسهما، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما، كهي في : دع عنك، لأنها إن كانت حرفاً، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل، وذلك لا يجوز.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٨
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾ : مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون، واسمها آسية بنت مزاحم، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ الله تعالى والمدعي الإلهية، بل نجاها منه إيمانها ؛ وبحال مريم، إذ أوتيت من كرامة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفاراً. ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ﴾ : هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث. قيل : كانت عمة موسى عليه السلام، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة. طلبت من ربها القرب من رحمته، وكان ذلك أهم عندها، فقدمت الظرف، وهو ﴿عِندَكَ بَيْتًا﴾، ثم بينت مكان القرب فقالت :﴿فِى الْجَنَّةِ﴾. وقال بعض الظرفاء : وقد سئل : اين في القرآن مثل قولهم :
٢٩٤
الجار قبل الدار ؟ قال : قوله تعالى ﴿ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ﴾، فعندك هو المجاورة، وبيتاً في الجنة هو الدار، وقد تقدم ﴿عِندَكَ﴾ على قوله :﴿بَيْتًا﴾. ﴿وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ﴾، قيل : دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام. وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت. وقال الحسن : لما دعت بالنجاة، نجاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم. وقيل : لما قالت :﴿ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ﴾، أريت بيتها في الجنة يبنى، ﴿وَعَمَلِهِ﴾، قيل : كفره. وقيل : عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس : الجماع. ﴿وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾، قال : أهل مصر، وقال مقاتل : القبط، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى الله تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٨


الصفحة التالية
Icon