وقرأ الجمهور :﴿مِن تَفَـاوُتٍ﴾، بألف مصدر تفاوت ؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش : بشدّ الواو، مصدر تفوّت. وحكى أبو زيد عن العربي : تفاوتاً بضم الواو وفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذان. والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور، بل كل جار على الإتقان. وقيل : المراد في ﴿خَلْقِ الرَّحْمَـانِ﴾ السموات فقط، والظاهر أن قوله تعالى :﴿مَّا تَرَى ﴾ استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله :﴿طِبَاقًا﴾، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله :﴿خَلْقِ الرَّحْمَـانِ﴾ تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب. انتهى. والخطاب في ترى لكل مخاطب، أو للرسول صلى الله عليه وسلّم. ولما أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال :﴿فَارْجِعِ﴾، ففي الفاء معنى التسبب، والمعنى : أن العيان يطابق الخبر. و، قال مجاهد : الشقوق، فطر ناب البعير : شق اللحم وظهر، قال الشاعر :
بنى لكم بلا عمد سماءوسوّاها فما فيها فطور
وقال أبو عبيدة : صدوع، وأنشد قول عبيد بن مسعود :
شققت القلب ثم رددت فيههواك فليط فالتأم الفطور
وقال السدي : خروق. وقال قتادة : خلل، ومنه التفطير والانفطار. وقال ابن عباس : وهن وهذه تفاسير متقاربة، والجملة من قوله :﴿الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ في موضع نصب بفعل معلق محذوف، أي فانظر هل ترى، أو ضمن معنى ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ معنى فانظر ببصرك هل ترى ؟ فيكون معلقاً. ﴿ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ﴾ : أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد، بل يراد بها التكرار، كأنه قال : كرة بعد كرة، أي كرات كثيرة، كقوله : لبيك، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، وأريد بالتنثية التكثير، كما أريد بما هو أصل لها التكثير، وهو مفرد عطف على مفرد، نحو قوله :
لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهمبيتاً وأبعدهم عن منزل الذام
٢٩٨
يريد : لوعدت قبور كثيرة. وقال ابن عطية وغيره :﴿كَرَّتَيْنِ﴾ معناه مرتين ونصبها على المصدر. وقيل : أمر برجع البصر إلى السماء مرتين، غلط في الأولى، فيستدرك بالثانية. وقيل : الأولى ليرى حسنها واستواءها، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها. وقرأ الجمهور :﴿يَنقَلِبَ﴾ جزماً على جواب الأمر ؛ والخوارزمي عن الكسائي : يرفع الباء، أي فينقلب على حذف الفاء، أو على أنه موضع حال مقدرة، أي إن رجعت البصر وكررت النظر لتطلب فطور شقوق أو خللاً أو عيباً، رجع إليك مبعداً عما طلبته لانتفاء ذلك عنها، وهو كالّ من كثرة النظر، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين. والحسير : الكال، قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٩٦
لهن الوجى لم كر عوناً على النوىولا زال منها ظالع وحسير
يقال : حسر بعيره يحسر حسوراً : أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور، قال الشاعر يصف ناقة :
فشطرها نظر العينين محسور
أي : ونحرها، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل، قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها
البيت.
﴿السَّمَآءَ الدُّنْيَا﴾ : هي التي نشاهدها، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة، ﴿بِمَصَـابِيحَ﴾ : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح، ومصابيح مطلق الأعلام، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح. ﴿وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ﴾ : أي جعلنا منها، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله :﴿وَجَعَلْنَـاهَآ﴾ على السماء. والظاهر عوده على مصابيح. ونسب الرجم إليها، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها، والكواكب قارّ في ملكه على حاله. فالشهاب كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية لا تنقص. والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات. وقيل : معنى رجوماً : ظنوناً لشياطين الإنس، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء. وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال. وقال قتادة : خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وليهتدي بها في البر والبحر ؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة. والضمير في لهم عائد على الشياطين.


الصفحة التالية
Icon