﴿فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ﴾، المعنى : خل بيني وبينه، فإني سأجازيه وليس ثم مانع. وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم من أمر الآخرة وغيره، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء. ومن في موضع نصب، إما عطفاً على الضمير في ذرني، وإما على أنه مفعول معه. ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ إلى قوله :﴿مَتِينٌ﴾ : تكلم عليه في الأعراف. ﴿أَمْ تَسْاَلُهُمْ أَجْرًا﴾ إلى :﴿يَكْتُبُونَ﴾ : تكلم عليه في الطور. روي أنه صلى الله عليه وسلّم أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحُد حين اشتد بالمسلمين الأمر. وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف، فنزلت :﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ : وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى، ﴿وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ : هو يونس عليه السلام، ﴿إِذْ نَادَى ﴾ : أي في بطن الحوت، وهو قوله :﴿أَن لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ﴾، وليس النهي منصباً على الذوات، إنما المعنى : لا يكن حالك مثل حاله. ﴿إِذْ نَادَى ﴾ : فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت، ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ : مملوء غيظاً على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم. وقال ذو الرمة :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤
وأنت من حب ميّ مضمر حزناعانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
وتقدمت مادة كظم في قوله :﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾. وقرأ الجمهور :﴿تَدَارَكَهُ﴾ ماضياً، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل. وقرأ عبد الله وابن عباس : تداركته بتاء التأنيث ؛ وابن هرمز والحسن والأعمش : بشد الدال. قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك، والأصل في ذلك تتداركه، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله. وقال بعض المتأخرين : هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية، أي لولا أن كان يقال تتداركه، ومعناه : لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله ﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ﴾، ونحوه قوله :﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ﴾ ؛ وجواب ﴿لَّوْلا﴾ قوله :﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم، كما قال :﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ﴾، والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقاً، بل بقيد الحال. وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموماً، ويدل عليه ﴿فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. ثم أخبر تعالى أنه ﴿اجْتَبَاهُ﴾ : أي اصطفاه، ﴿وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ : أي الأنبياء. وعن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه.
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال :﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ﴾ : أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة، أو ليهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله. وقال الشاعر :
يتعارضون إذا التقوا في موطننظراً يزل مواطن الأقدام
وقال الكلبي : ليزلقونك : ليصرفونك. وقرأ الجمهور :﴿لَيُزْلِقُونَكَ﴾ بضم الياء من أزلق ؛ ونافع : بفتحها من زلقت الرجل، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر، نحو شترت عينه بالكسر، وشترها الله بالفتح. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك. وقيل : معنى ﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ : ليأخذونك بالعين، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد. قال ابن الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن
٣١٧
من هذه، فما تذهب إلا قليلاً ثم تسقط طائفة أو عدة منها. قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأجابهم، وأنشد :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤
قد كان قومك يحسبونك سيداوأخال أنك سيد معيون
أي : مصاب بالعين، فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلّم، وأنزل عليه هذه الآية. قال قتادة : نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام. وقال الحسن : دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية. وقال القشيري : الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان، لا مع الكراهة والبغض، وقال :﴿وَيَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ﴾. وقال القرطبي : ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك. انتهى. وقد يكون في المعين، وإن كان مبغضاً عند العائن صفة يستحسنها العائن، فيعينه من تلك الصفة، لا سيما من تكون فيه صفات كمال. ﴿لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾ : من يقول لما ظرف يكون العامل فيه ﴿لَيُزْلِقُونَكَ﴾، وإن كان حرف وجوب لوجوب، وهو الصحيح، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك، والذكر : القرآن. ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ﴾ تنفيراً عنه، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلّم أتمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً. ﴿وَمَا هُوَ﴾ : أي القرآن، ﴿إِلا ذِكْرٌ﴾ : عظة وعبرة، ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾ : أي للجن والإنس، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به ؟.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٠٤