﴿وَقَدْ أَضَلُّوا ﴾ : أي الرؤساء المتبوعون، ﴿كَثِيرًا ﴾ : من أتباعهم وعامتهم، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال. وقال الحسن :﴿وَقَدْ أَضَلُّوا ﴾ : أي الأصنام، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء، كقوله تعالى :﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ ويحسنه عوده على أقرب مذكور، ولكن عوده على الرؤساء أظهر، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن. ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيراً، دعا عليهم بالضلال، فقال :﴿وَلا تَزِدِ﴾ : وهي معطوفة على ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا ﴾، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيراً، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله :﴿وَقَدْ أَضَلُّوا ﴾، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، بل قد يعطف، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس، خلافاً لمن يدعي التناسب. وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف ﴿وَلا تَزِدِ﴾ على ﴿رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى﴾، أي قال هذين القولين. ﴿إِلا ضَلَالا﴾، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو
٣٤٢
الله بزيادته ؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. انتهى، وذلك على مذهب الاعتزال. قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك، كما قال :﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارَا ﴾. وقال ابن بحر :﴿إِلا ضَلَالا﴾ : إلا عذاباً، قال كقوله :﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾. وقيل : إلا خسراناً. وقيل : إلا ضلالاً في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم.
وقرأ الجمهور :﴿مِّمَّا خَطِياَاتِهِمْ﴾ جمعاً بالألف والتاء مهموزاً ؛ وأبو رجاء كذلك، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد ؛ والجحدري وعبيد، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزاً ؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم ؛ وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه السلام قد أجيبت. وما زائدة للتوكيد ؛ ومن، قال ابن عطية : لابتداء الغاية، ولا يظهر إلا أنها للسبب. وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم. وقرأ الجمهور :﴿أُغْرِقُوا ﴾ بالهمزة ؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر، ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ : أي جهنم، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه، وعطف بالفاء على إرادة الحكم، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّاً وعشياً، كما قال :﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾. قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر. انتهى. وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٣٧
﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم، ودعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه ﴿لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ﴾، قاله قتادة. وعنه أيضاً : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب، وأعقم أرحام نسائهم، وهذا لا يظهر لأنه قال :﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ الآية، فقوله :﴿وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم، وقاله أيضاً محمد بن كعب والربيع وابن زيد، ولا يظهر كما قلنا، وقد كان قبل ذلك طامعاً في إيمانهم عاطفاً عليهم. وفي الحديث :"أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون". ودياراً : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه، ووزنه فيعال، أصله ديوار، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال، وكلاهما من الدوران، كما قالوا : قيام وقوام، والمعنى معنى أحد. وعن السدّي : من سكن داراً. وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار. انتهى. والدار أيضاً من الدور، وألفها منقلبة عن واو. ﴿وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر.
ولما دعا على الكفار، استغفر للمؤمنين، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه، ثم للؤمنين، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات. وقرأ الجمهور : ، والظاهر أنهما أبوه لملك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش. وقيل : هما آدم وحوّاء. وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال، فأما أن يكون خص أباه الأقرب، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام. وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام. وقرأ الحسن بن عليّ ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد، يعني ساماً وحاماً. ﴿وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ﴾، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي ؛ وعن ابن عباس أيضاً : شريعتي، استعار لها بيتاً، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه. وقيل : سفينته. وقيل : داره. ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة. والتبار : الهلاك.
٣٤٣
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٣٧