وقرأ الحرميان والأبوان : بفتح الهمزة من قوله :﴿وَأَنَّه تَعَـالَى ﴾ وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية آخرها ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ﴾ ؛ وباقي السبعة : بالكسر. فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله :﴿إِنَّا سَمِعْنَا﴾، فهي داخلة في معمول القول. وأما الفتح، فقال أبو حاتم : هو على ﴿أُوحِىَ﴾، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى. وهذا لا يصح، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت ﴿أُوحِىَ﴾، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم، كقوله :﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾. ألا ترى أنه لا يلائم ﴿أُوحِىَ إِلَيْكَ﴾، ﴿كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـاعِدَ﴾، وكذلك باقيها ؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله :﴿يَهْدِى إِلَى﴾ : أي وبأنه، وكذلك باقيها، وهذا جائز على مذهب الكوفيين، وهو الصحيح. وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله :﴿وَكُفْرُا بِهِا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾. وقال مكي : هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن. وقال الزجاج : وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به، لأنه معناه : صدقناه وعلمناه، فيكون المعنى : فآمنا به أنه تعالى جد ربنا ؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال : فتحت أن لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو : صدقنا وشهدنا.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه، نحو قوله :﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾، وتبعهما الزمخشري فقال : ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي. انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا. وقرأ الجمهور :﴿جَدُّ رَبِّنَا﴾، بفتح الجيم ورفع الدال، مضافاً إلى ربنا : أي عظمته، قاله الجمهور. وقال أنس والحسن : غناه. وقال مجاهد : ذكره. وقال ابن عباس : قدره وأمره. وقرأ عكرمة : جد منوباً، ربنا مرفوع الباء، كأنه قال : عظيم هو ربنا، فربنا بدل، والجد في اللغة العظيم. وقرأ
٣٤٧
حميد بن قيس : جد بضم الجيم مضافاً ومعناه العظيم، حكاه سيبويه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى : تعالى ربنا العظيم. وقرأ عكرمة : جداً ربنا، بفتح الجيم والدال منوناً، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل، أصله ﴿تَعَـالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾. وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً : جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً، ربنا رفع. قال ابن عطية : نصب جداً على الحال، ومعناه : تعالى حقيقة ومتمكناً. وقال غيره : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : تعاليا جداً، وربنا مرفوع بتعالى. وقرأ ابن السميفع : جدي ربنا، أي جدواه ونفعه. وقرأ الجمهور :﴿يَقُولُ سَفِيهُنَا﴾ : هو إبليس. وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه، وإبليس مقدم السفهاء. والشطط : التعدي وتجاوز الجد. قال الأعشى :
أينتهون ولن ينهى ذوو شططكالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويقال : أشط في السوم إذا أبعد فيه، أي قولا هو في نفسه شطط، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى. ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ﴾ الآية : أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن، واعتقدنا أن أحداً لا يجترىء على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم. وقرأ الجمهور :﴿أَن لَّن تَقُولَ﴾ مضارع قال ؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم : تقول مضارع تتقول، حذفت إحدى التاءين وانتصب ﴿كَذِبًا﴾ في قراءة الجمهور بتقول، لأن الكذب نوع من القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذباً، أي مكذوباً فيه. وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار كقعدت جلوساً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
﴿وَأَنَّه كَانَ رِجَالٌ﴾. روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه. فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك : لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئاً. قال مقاتل : أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب. والظاهر أن الضمير المرفوع في ﴿فَزَادُوهُمْ﴾ عائد على ﴿رِجَالٌ مِّنَ الانسِ﴾، إذ هم المحدث عنهم، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير. ﴿فَزَادُوهُمْ﴾ أي الإنس، ﴿رَهَقًا﴾ : أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارم وإعجاباً بحيث قالوا : سدنا الإنس والجن، وفسر قوم الرهق بالإثم. وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى :