وقال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، ثم ذكر استدلالاً على بطلان ما يقوله المنجم، ثم قال باستحلال دم المنجم. وقال الواحدي : في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن. قال أبو عبد الله الرازي والواحدي : تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه، لأن قوله :
٣٥٥
﴿عَلَى غَيْبِهِ﴾ ليس فيه صفة عموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله :﴿إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ الآية : أي لا أدري وقت وقوع القيامة، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد. و﴿إِلا مَنِ ارْتَضَى ﴾ : استثناء منقطع، كأنه قال : فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى من رسول، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي يدل عليه وجوه : أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلى الله عليه وسلّم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا صلى الله عليه وسلّم. وثانيها : إطباق الأمم على صحة علم التعبير، فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبل ويكون صادقاً. وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال : فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة. ورابعها : أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة، ليس هذا مختصاً بالأولياء، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق، وإن كان الكذب يقع منهم كثيراً. وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك بأطل. فقلنا : إن التأويل الصحيح ما ذكرناه. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه
٣٥٦
المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه.
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع، كما جاء في الحديث :"إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة". وليس هذا من علم الغيب، إذ تكلمت به الملائكة، وتلقفها الجني، وتلقفها منه الكاهن ؛ فالكاهن لم يعلم الغيب.
وأما تعبير المنامات، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع، بل على سبيل الحزر والتخمين، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع.
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف.
وأما حكايته عن صاحب المعتبر، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة. وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤
وأما الكرامات، فلا أشك في صدور شيء منها، لكن ذلك على سبيل الندرة، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة ؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق.
وقرأ الجمهور :﴿لِّيَعْلَمَ﴾ مبنياً للفاعل. قال قتادة : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلّم أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا. وقال ابن جبير : ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال مجاهد : ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة. وقيل : ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود، لأن علمه بكل شيء قد سبق. واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال :﴿أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾ : يعني الأنبياء. وحد أولاً على اللفظ في قوله :﴿مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾، ثم جمع على المعنى كقوله :﴿فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ﴾، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان، وذكر العلم كذكره في قوله ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾. انتهى. وقيل :﴿لِّيَعْلَمَ﴾، أي : أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه. وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه. وقيل : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع. وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ : ليعلم، بضم الياء مبنياً للمفعول ؛ والزهري وابن أبي عبلة : بضم الياء وكسر اللام، أي ليعلم الله، أي من شاء أن يعلمه، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته.
وقرأ الجمهور : على الجمع ؛ وأبو حيوة : على الإفراد. وقرأ الجمهور :﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ : وأحاط مبنياً للفاعل، أي الله، ﴿وَأَحْصَى ﴾ : مبنياً للفاعل، أي الله كل نصباً ؛ وابن أبي عبلة : وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً. ولما كان ليعلم مضمناً معنى علم، صار المعنى : قد علم ذلك، فعطف وأحاط على هذا الضمير، والمعنى : وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء. ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدَا ﴾ : أي معدوداً محصوراً، وانتصابه على الحال من كل شيء، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم. ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون تمييزاً. انتهى، فيكون منقولاً من المفعول، إذا أصله : وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف.
٣٥٧
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٤


الصفحة التالية
Icon