﴿وَمَهَّدتُّ لَه تَمْهِيدًا﴾ : أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه. وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام. وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض، كما يمهد الفراش. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ : أي على ما أعطيته من المال والولد. ﴿كَلا﴾ : أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم. وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة، لأنه كان يقول : إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ﴾، قال الزمخشري : استعباد لطمعه واستنكار، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة، ﴿كَلا﴾ : قطع لرجائه وردع. انتهى. وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا. ﴿إِنَّه كَانَ لايَـاتِنَا عَنِيدًا﴾ : تعليل للرّدع على وجه الاستئناف، كأن قائلاً قال : لم لا يزاد ؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك، والكافر لا يستحق المزيد ؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله :﴿وَجَعَلْتُ لَه مَالا مَّمْدُودًا﴾ إلى آخر ما آتاه الله، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه سحر. ﴿سَأُرْهِقُهُ﴾ : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر، ﴿صَعُودًا﴾ : عقبة في جهنم، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٦٨
﴿إِنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى، ونحو هذا من الكلام، فخالفوه وقالوا : هو شعر، فقال : والله ما هو بشعر، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا : فهو كاهن، قال : والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، قالوا : هو مجنون، قال : والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا : هو سحر، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه. وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى، وفيه : وتزعمون أنه كذب، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل
٣٧٣
مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه. وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام. ودخل إلى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل. ﴿إِنَّه فَكَّرَ﴾ : تعليل للوعيد في قوله :﴿سَأُرْهِقُه صَعُودًا﴾. قيل : ويجوز أن يكون ﴿إِنَّه فَكَّرَ﴾ بدلاً من قوله :﴿إِنَّه كَانَ لايَـاتِنَا عَنِيدًا﴾، بياناً لكنه عناده وفكر، أي في القرآن ومن أتى به، ﴿وَقَدَّرَ﴾ : أي في نفسه ما يقول فيه. ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، قتل : لعن، وقيل : غلب وقهر، وذلك من قوله :
لسهميك في أعسار قلب مقتل
أي مذلل مقهور بالحب، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب، وذلك إخبار بقهره وذلته، و﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب. فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً، كأنه رآنا حين قال كذا. وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه. وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء. وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله، وهذا فيه بعد. وقولهم : قاتلهم الله، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده، والاستفهام في ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه، كقولهم : أي رجل زيد ؟ أي ما أعظمه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٦٨


الصفحة التالية
Icon